داخل»قسم الطوارئ» تتسارع خطا الأطباء بهدوء فوق الأرض، يسابقون عقارب الساعة لإنعاش قلوب هدأ نبضها من الألم، وكذلك ترميم جروح غائرة أتعبها نزف الوجع، ليصبح للحياة وجهان، بين لحظة ميلاد أعادت قوافل الأيام المسافرة، ورحلة مغادرة إلى طريق اللاعودة، فشلت خلالها كل محاولات ضخ النبض في أوردتها الباردة. أكثر من حكاية «طارئة» تعيش فصولها بين أجهزة الأشعة وقياس ضغط الدم و»مشرط» الجراح، لأشخاص قدرهم أن يعيشوا للحظات خارج حدود الزمان والمكان، بعد أن فقدوا وعي ذاكرتهم، أو تناثرت قطرات دمائهم فوق «سواد الإسفلت» القاسي، نتيجة حوادث سير كان لها أكثر من «سيناريو»؛ لتغيب من فوق شواطئ كلماتهم كل مفردات اللغة، للتعبيرعن تجربة الخوف من المجهول، والذي تكتمل فصوله عندما تتعثر محاولات إسعافهم من مستشفى كانت قريبة بموقعها الجغرافي من الحادث، ولكنها بعيدة حتى آخر نقطة في الكون بإمكانياتها الطبية الهزيلة، وعندما يصبح الخيار الأخير الإنتقال إلى إمكانيات طبية متطورة لمستشفى خاص، تتحول سريعاً محاولات الإسعاف الإنسانية إلى لغة الأرقام المادية، والتي قد تخرس في لحظة آخر أنين ألم لمصاب كان يصارع الحياة من أجل حقه في العلاج. إن توحيد معايير الجودة لأقسام الطوارئ في المستشفيات الحكومية، ودعم الأطباء العاملين فيها في ظل الندرة الذي يعانيه هذا التخصص، مطلب فرض وجوده، ومن خلال هذا التحقيق نتعرف على آراء المختصين في هذا المجال، والتي أكدت على أن الابتعاث للخارج ودعم وزارة الصحة سيزيد أعداد استشاري طب الطوارئ، في الوقت الذي أشاروا فيه إلى ضرورة وجود برامج توعية إسعافية لأفراد المجتمع، للتعامل الأمثل مع المصابين في الحوداث، تتضمن الطريقة المناسبة لرفع المصاب ونقله الى المستشفى لتلقى العلاج. 50 طبيباً يقول «د.عبد العزيز الشاطري» -استشاري طب الطوارئ ومساعد مدير مستشفى الثغر بجدة-: إن معظم دول العالم تعاني من قصور في معيار الجودة في أقسام الطوارئ لديها، مشيراً إلى أن وزارة الصحة قطعت شوطاً كبيراً في توحيد معايير الجودة الطبية لأقسام الطوارئ بالمستشفيات الحكومية على مستوى المملكة، من خلال إعداد «برتوكول» طبي لاستقبال الحالات، والذي حقق نتائج عالية، مما جعل المملكة في مصاف الدول المتطورة في هذا المجال، موضحاً أننا نعاني من ندرة حقيقة في أعداد أطباء الطوارئ الاستشاريين المتخصصين والمدربين بشكل عالٍ للتعامل مع الحالات الحرجة منذ اللحظة الأولى لوصولها لتلقي العلاج، والذين لا يتجاوز عددهم (50) طبيباً، مما دفع الوزارة لإبتعاث أعداد كبيرة إلى الخارج لاكتساب المهارات العالية؛ بهدف التغلب على الصعوبات التي تضعف أداء هذا القسم الحيوي، والذي يقوم بمراجعته أعداد كبيرة من المرضى، والذين يمكن تسمية وضعهم الصحي بالحالة «الباردة»، والتي عادة ما تشكو من أعراض بسيطة كارتفاع في درجة الحرارة، أو التعرض لبعض الحوادث المنزلية البسيطة والتي تستطيع انتظار الطبيب المختص في عيادته، أو تحويلها إلى قسم آخر تحت مسمى «الحالات المستعجلة». إرباك العمل وأقترح أن يرى هذا القسم النور قريباً؛ لأن الازدحام غير المبرر يتسبب في حدوث مضاعفات لحالات خطيرة أخرى، تحتاج إلى جهود الكادر الطبي بكل طاقاته وإمكانياته، لافتاً إلى أن المشكلة الأخرى التي تواجهنا تتمثل في تواجد أهالي المصاب حوله وبأعداد كبيرة، ما بين أصدقاء وأقارب وجيران، مما قد يتسبب في إرباك العمل لكل الحالات في القسم، إلى جانب مطالبتهم الأطباء بسرعة إنقاذه والإجابة عن تساؤلاتهم والتي يصعب الرد عليها أحياناً. تخصص غير مرغوب ويرى «د.سامي باداود» -مدير الشؤون الصحية بمحافظة جدة- أن معايير الجودة والتي حددتها وزارة الصحة بقسم الطوارئ، يتم التعامل بها في جميع الأقسام ذات العلاقة على مستوى مستشفيات المملكة، وذلك وفق المعايير العالمية، لتعمم على مستشفيات المحافظات بعد تعميمها على المستشفيات الكبرى، مضيفاً أنه بالنسبة للتجهيزات الطبية فإن توفيرها يكون حسب معايير وزارة الصحة والمتناسبة والحاجة الفعلية لعدد السكان، مشيراً إلى أنه ليس من المنطق أن نوفر أجهزة رنين «مغناطيسي»، وتخطيط مخ وقلب، واستشاري مخ وأعصاب في مركز صحي يقع في منطقة لا يتجاوز عدد سكانها (2000) نسمة، وقد تكون هذه المنطقة لا تبعد عن مدينتي جدة أو الرياض أكثر من (400كم)، ذاكراً أن وزارة الصحة تعاني من ندرة حقيقة في تخصصات طب الطوارئ؛ وذلك لعدم رغبة الأطباء التخصص في هذا المجال؛ بسبب ساعات الدوام الطويلة غير المنتظمة طوال أيام الأسبوع، وخلال موسم الإجازات والأعياد، الأمر الذي يجعل الطبيب في حالة تأهب قصوى، مؤكداً على أنه في حال رفض المستشفيات الخاصة أو الحكومية لأي حالة طارئة، لضعف الإمكانيات المتاحة للتعامل مع الحالة، أو لعدم قدرة المصاب على دفع تكاليف العلاج ولو بصورة مبدئية، تطبق بحقه العقوبات والتي أصدرتها وزارة الصحة والتي تشتمل على الغرامة المالية أو سحب ترخيص مزاولة المهنة. وعي مجتمعي وقال «د.محمد باجبير» -مدير إدارة الطوارئ والخدمات الإسعافية بمحافظة جدة-: إن المستشفيات مصنّفة على درجات، تتفاوت من مكان إلى آخر، لذا يصعب توحيد معايير الجودة فيها، مشدداً على أن إنقاذ الحياة معيار طبي في كل المستشفيات بمختلف درجاتها، مطالباً بضرورة وجود وعي مجتمعي للتعامل مع الحالات الطارئة في الأماكن العامة أثناء الحادث؛ فالشهامة والفزعة التي تفتقر للتعامل الأمثل مع الحالة، قد تتسبب مضاعفات أو تؤدي إلى إعاقة المصاب مدى الحياة، مؤكداً على أن التوجه لتخصص طب الطوارئ تحسن بشكل كبير، فالوزارة تقدم الدعم من حيث البدلات والتي تصل الى (30%)، بهدف استقطاب أعداد كبيرة من الشباب والشابات. نقص حاد وتشير «د.منازر المالكي» -تخصص طب الطوارئ بمستشفى الثغر- إلى أن عدم اكتمال العدد الكافي من خريجي طب الطوارئ لتغطية المستشفيات الحكومية في المملكة، يكشف عن نقص حاد في هذا التخصص، مضيفةً أن الاعتراف ببرنامج طب الطوارئ مازال قاصراً لدى بعض المستشفيات، والذي يؤثر سلباً على أداء سير العمل بالقسم، ذاكرةً أن بعض التخصصات الأخرى تحاول سد هذا العجز، مبينةً أنه ربما يكون أحد أسباب هذا النقص مواجهة الجمهور بشكل مباشر، والذي يتطلب «دبلوماسية» ولباقة في التعامل مع أهالي المصابين والذين تتفاوت ثقافتهم المجتمعية، موضحةً أن المعايير والسياسات التي تعمل بها أقسام الطوارئ لم يضعها أطباء الطوارئ أنفسهم، مما تسبب في إضعافها والتي يجب أن تكون وفق المعايير الدولية المتعارف عليها طبياً، ولو أردنا مقارنة مستشفى يعمل به أطباء متخصصون من طب الطوارئ ستكون سياسة العمل مختلفة عن المستشفيات التي يعمل به أطباء تخصص عام، مع الأخذ في الاعتبار بأن لكل تخصص سياسية يحاول كل طبيب تطبيقها. من موقع الحدث ويؤكد «د.أحمد عاشور» -مدير مستشفى الملك فهد سابقاً- على أنه من الصعوبة توحيد معايير الجودة لأقسام الطوارئ في مستشفى إمكانياته تقدر بعشرات الملايين في مدينة كبرى، ومستشفى آخر إمكانياته بعشرات الآلاف من الريالات ويقع في منطقة نائية، مضيفاً أن معايير الجودة تعتمد على ثلاثة عناصر مهمة تترتب حسب أولوياتها، فالعنصر البشري المكون من الأطباء وكادر التمريض والمدربين على استقبال حالات الطوارئ والتعامل معها بحرفية وبشكل عاجل، من أهم الأسباب التي تعطي الجودة، في ظل وجود التجهيزات الآلية وتوفير الأدوية، والتي تساعد على إيقاف النزيف الحاد وتثبيت الحالة على وضع مستقر، حتى نتمكن من علاجها أو نقلها إلى مكان آخر لتتلقى عناية مكثفة، مع الأخذ في الاعتبار أن مساحة المكان وعدد الحالات التي يستقبلها وترتيبها حسب أولويات العلاج دون حدوث إرباك لسير العمل، ذاكراً أن طب الطوارئ يبدأ من موقع الحدث بأن يعي كل فرد قريب من موقع الحادث دوره تماماً، من خلال ثقافة التعامل مع مصابي الحوادث، مبيناً أن أقسام الطوارئ تعالج جميع الناس بدون استثناء وبدون مقابل، فكل مصاب أو مريض من حقه العلاج في المستشفيات الحكومية والخاصة. أفضل التخصصات وأوضح «د.عبد الله العتيبي» -رئيس لجنة الشؤون الصحية والبيئة بمجلس الشورى- أن مركز اعتماد الجودة بوزارة الصحة يعمل بشكل موسع في مستشفيات الوزارة، بهدف سن وتوزيع المعايير الخاصة بالجودة في كل الخدمات المقدمة، مما دفع الكثير من المستشفيات أن تطلب الاعتماد من المركز، مضيفاً أن المستشفيات الصغيرة من الصعب أن تتخذ كافة معايير الجودة، لكن على الأقل يجب أن تكون مقاربة لما هو مفترض من خدمات تقدم للمرضى، بحيث تكون مناسبة لكافة الحالات. إجراءات وتنظيمات ويشارك «د.فهد العنزي» -عضو مجلس الشورى- برأيه قائلاً: إن أبسط المبادئ والمفاهيم الإنسانية تقتضي التعامل مع الحالات الإسعافية بكل إنسانية، وديننا الحنيف يحتم علينا الحفاظ على حياة الناس، بل وجعل جزاء من يحيي نفس واحدة كأنه قد أحيا جميع الناس، قال تعالى: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً»، مضيفاً أنه عند المرض ينبغي أن يتساوى في الحصول على العناية والعلاج والرعاية كل الناس، لا فرق في ذلك بين صغير وكبير وغني وفقير، ذاكراً أن الأنظمة في المملكة وعلى رأسها النظام الأساسي للحكم عززت من هذا المفهوم، وساوت بين الناس في هذه الحقوق، وأكدت على كفالة الدولة لمواطنيها في حالة الطوارئ والمرض، بل وقررت ضمانات مهمة للمقيمين أيضاً، مشيراً إلى نظام الضمان الصحي التعاوني نص على كفالة رب العمل صحياً للعاملين لديه من المقيمين والمواطنين العاملين في القطاع الخاص، بل ووضع القواعد الدقيقة الخاصة بذلك. مجلس للخدمات وأضاف: نص النظام الصحي الصادر عام 1423ه لاسيما في مادتيه (16) و(17) على إنشاء مجلس للخدمات الصحية، يكون من اختصاصاته وضع وإقرار سياسات التنسيق والتكامل بين الجهات المختصة فيما يخص خدمات الإسعاف والإخلاء الطبي، بالإضافة إلى أن الأنظمة التي تُعنى بالقطاع الصحي بالمملكة نصت على كثير من القواعد التي تحقق أقصى درجات الرعاية الصحية للمواطن والمقيم، مشيراً إلى نظام المؤسسات الصحية الخاصة ألزم بتقديم العلاج الإسعافي لجميع الحالات الخطرة الواردة إليها، دون مطالبة مالية عند تقديم هذا العلاج.