حياة القاهرة، كما كنا نعرفها، مخزون هائل من الفولكلور الحياتي المسرحي ، وإرث من الثقافة الشعبية الضاحكة دائماً ، والفرحة أبداً ، وفضاؤها السكاني يتعامل في أشد حالات البؤس ، والفقر ، والحاجة ، بإنتاج النكتة المعبرة ، وإسقاطها على الحالات السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، لذا فإن الضحك في الشارع المصري حالة عامة ، وممارسته طقس يومي مستمر ، يعالج الإنسان عبره ومن خلاله داءاته ، وأوجاعه ، ويأخذ النكتة كمحصّن له من السقوط والانهيار النفسي بسبب المعاناة القاسية التي يُعايشها ، وتطحنه بشراسة أثقالها ، حتى إن ثورة ميدان التحريرلم يستخدم شبابها أي منتج سلاح ، أو مواجهة قتالية بقدر ماكانت النكتة حاضرة كتعبير رفض واحتجاج " عايز أروح لمراتي .. أنا متزوج جديد " و" عايز أستحمّ " و " ياسوزان قولي للبيه ، ثلاثين سنه كفايه عليه " ، وغير هذه العبارات التي تشي بقدرة الشعب المصري على إنتاج وإبداع النكتة ، وممارسة السخرية حتى في الأمور والقضايا المفصلية . كان زائر القاهرة يستمتع كثيراً بزيارة حي الحسين ، ومقاهيه الشهيرة ، ويقضي وقتاً جميلاً في مشاهدة مسرح عام، وحي مترع بالفرح والدهشة والضحك ، ويبهره أن يرى الناس تحكمهم قوانين اجتماعية أنتجتها ثقافة الفرح ، والابتسام ، والتعامل بكثير من الحميمية , وما يمكن أن يشاهده الزائر في حي الحسين ، هو موجود في كل الأحياء الفقيرة ، والمتوسطة ، والباذخة المترفة . من حي السيدة وبولاق حتى مدينة نصر ، أو ستة أكتوبر . الفرح حالة عامة في مصر ، والنكتة إكسير حياة ، والفضاء الاجتماعي العام وجد ليفرح ، ويضحك ، ويسخر من الحياة ومن الآخرين ، وإذا لم يجد الإنسان مايسخر منه سخِر من نفسه!، والكل يعالج همومه ، ومتاعبه ، وأحزانه بالنكتة حتى إن أحدهم عندما انتهى من دفن والده ، سأل .. كم أُعطي أجراً للحانوتي ؟ ولما قالوا له إن السعر خمسون جنيهاً وليس أقل .. قال : معلهيش .. أقول له رجّعه !! . في الاسبوع الماضي كنتُ في القاهرة .. الحياة اليومية تسير بشكلها الطبيعي ، الناس يذهبون ولكن لايعرفون إلى أين ..؟ لقد فقدوا بوصلة الحياة اليومية ، الشيء الذي يمكن أن تلمسه بوضوح تام هو حالة القلق ، والسأم ، والحيرة والخوف من المجهول ، فالأشياء أصبحت ضبابية تماماً ، والنكتة غابت عن الناس ، ولم تعد متواجدة كثيراً لأن الخوف من القادم ، وعدم وضوح الرؤية ، والقلق على المصائر ، والمستقبلات هواجس مؤرقة ، ومضنية . الشارع القاهري مرتبك ، وخائف ، ويعيش مرحلة ضبابية على كل الصعد والمناحي ، ولعل أكثر مايربكه هو الأمن الذي بدأ يفقده ، والأمن هو مدماك الحياة ..