فيلم آخر جديد يدين بشكره الكبير للسيد هاياو مايزاكي، كما تدين كثير من أعمال الأنمي له، فهو الرجل الذي غير علاقة عالم السينما والصورة بأنمي اليابان، عبره فيلمه الشهير «الأميرة مونونوكي» في عام 1997م. إن من المثير للانتباه أن علاقة الأنمي بالعالم خارج اليابان، كانت أفضل حالاً في الثمانينيات، مع أعمال شهيرة مثل «ناويشكا وادي الريح» لمايزاكي أيضاً، ثم «أكيرا» لكاتسوهيرو أوتومو في عام 1988م، ثم تردى الحال مع تقدم الزمن وتطور وسائل التسويق والترويج في مقابل انحسار غير مفهوم، لكن رائعة مايزاكي قلبت الحال، وغيرت العلاقة إلى الأبد مع قصة أسطورية عن هم مايزاكي الأول أو ثيمته الأبرز البيئة ونهاية التاريخ. قد تبدو هذه مقدمة غريبة لقراءة فيلم أنمي جديد، إلا أن هذا الفيلم تنطبق عليه شروط ما يمكن أن يعرف بالفيلم الذي يحسن الاختباء في اليابان، وهي إشكالية لم تزل قائمة في عالم الأنمي حتى مع التغيرات التي طرأت عليه بعد الألفية، حيث يبرز فيلم جديد، بفن شكلي مدهش، حديث في أفكاره على الرغم من الجنون الكبير الذي يسيطر على أفكار الأنمي، ما يجعل الإبداع على المستوى الفكري تحدياً بالغاً الصعوبة، لكن كل ذلك كان غير قادر على تحقيق البروز لفيلم الأنمي السينمائي من خلال كم الإنتاج الهائل على مدار العام، وفي ظل سيطرة مسلسلات الأنمي أو أفلام الفيديو المنزلية، على الحصة الأكبر من التسويق والإعلان، تأتي العزلة الإقليمية، على الرغم من النجاح الكبير الذي ربما قد يحققه الفيلم داخل اليابان، ما يجعل المنتج مكتفياً عن تسويقه عبر البحار، وهو تهمة شائعة عن ذهنية التسويق اليابانية التقليدية التي تتأثر بعزلتها الجغرافية وتعداد سكانها المهول الذي يحقق أرباحاً قد تبدو مقنعة، في دفن كثير من الأعمال الجيدة التي تستحق انتشاراً عالمياً، وبالأخص في الوقت الحالي الذي تتداخل فيه الثقافات وتندمج في عملية إثرائية مدهشة. هذا هو الحال مع فيلم «جزيرة السلوان-Oblivion Island: Haruka and the Magic Mirror»، حيث ما زال الفيلم يدور في تجمعات الأوتاكو ودوائر الفان سب، حيث يشتغل المهتمون اهتماماً شخصياً بترجمة الفيلم، دون شركات الإنتاج التي أحسن الفيلم الاختباء منها، بسبب الخصوصية اليابانية التي افترضها القائمون على تلك الشركات، أو الافتراض المبدئي بدنو مستواه الفني، الأمر الذي أثبتت خطأه ترشيحات مهرجان الأكاديمية اليابانية الثالث والثلاثين، والمهرجان الرابع للسينما الآسيوية في العام الماضي. متخذاً من الرسم الثلاثي الأبعاد قالباً له، يدور فيلم جزيرة السلوان أو العزاء عن أسطورة شعبية يابانية تروي كيف أن بعض الأشياء النفيسة تختفي عندما ينساها أصحابها، وأن وراء اختفائها الثعالب، تلك المخلوقات الماكرة الصغيرة، ذات الحضور الكثيف في الميثولوجيا اليابانية ومعتقدات الشنتو الأخلاقية. يفتتح الفيلم برواية شعبية على طريقة «موكاشي موكاشي – كان يا ما كان» أسلوب مكثف بالسجع والإحالات والاختصارات، تحكي عن قصة فلاح فقير أهمل الاحتفاظ بمشط شعرٍ مميز لجدته، مما أدى به إلى الضياع، ليقوم ذلك الفلاح بجمع بعض بيض الدجاج وتقديمه كقربان في مقام إناري، الكامي – الإله في بعض التفسيرات – الخاص بالخصوبة والرز والثعالب، وفي الليل يعود المشط إلى الفلاح، لينطلق جل الفلاحين في اليوم التالي لتقدمة القرابين لعل مفقوداتهم تعود إليهم، لكن الراوية تستدرك مؤكدة بأن ما جرى ليس إلا وهماً فما زلت الثعالب تحث بعضها يومياً على الاستمرار في أخذ المفقودات مرددين «خذوها، خذوها، إنها منسية». هذه المقدمة المنحوتة على أسلوب المخطوطات اليابانية الأثرية، برسم كثيف الألوان ومحرك بأسلوب مدهش وحيوي، ليست سوى كتاب أطفال كانت أُمُ شخصية الفيلم الرئيسية هاروكا تقرأ عليها منه عندما كانت تتعالج في المستشفى، هاروكا تتساءل عن لصوصية السيد الثعلب، لكن أمها تؤكد لها أن الثعلب ليس لصاً بقدر ما هو يذكرنا بقيمة الأشياء التي خبا وهجها في قلوبنا، هاروكا وكطفلة لطيفة تؤكد أنها لا يمكن أن تنسى قيمة الأشياء وأنها لن تنسى المرآة التي أهدتها لها أمها. الأم تغادر الحياة وتبقى هاروكا منفردة في العيش مع والدها الذي يقضي معظم وقته في العمل، هاروكا الآن أكبر سناً، محتقنة بالغضب، هناك نوع من الوحدة التي تسيطر عليها، وفي كل ذلك إحالات عرضية إلى واقع موجود في المجمتع الياباني، لكنها في إحدى لحظات الحنين، تتذكر مرآة والدتها، تخبر صديقتها بأنها ستنطلق لزيارة منزل جدتها في الريف، ثم نكتشف لاحقاً أنها ذهبت إلى مقام إيناري من أجل تقديم صلاة ترجو من خلالها استعادة مرآة والدتها، دون الغوص في العالم الميتافيزيقي الغيبي (عالم تختطف فيه الثعالب الأشياء الثمينة التي فقدت بسبب الإهمال)، فهي تتمنى أن تجد مرآة والدتها إن هي بحثت عنها في البيت مرة أخرى، لكن ما يحدث بعد ذلك، يدور في النمط الغيبي عبر اكتشافها إحدى الثعالب التي تلتقط نموذج طائرة وتنطلق بها إلى عالمها الخاص، هاروكا تتبع الثعلب إلى بوابة عالمه، لتجد بركة صغيرة تسحبها إلى ذلك العالم. هنا نشعر بأننا في محاكاة أخرى لرواية الانجليزي لويس كارول «أليس في بلاد العجائب»، لكن مخرج الفيلم «شينسوكي ساتو» وعبر مشاركته مع هيروتاكا أداتشي في كتابة السيناريو، كان مدركا لهذا التحدي، الأمر الذي دفعه لخلق أجواء مغرقة في الحميمية اليابانية من أجل تفعيل عالم مغاير لعالم أليس، لكن الفيلم وعبر استقراء تام، لم يستطع النجاة من سحر تحفة كارول الخالدة، بيد أن هذا لا يعني انتفاء خصوصية الفيلم وقيمته الفنية العالية، وبالذات في عالم الثعالب. الفيلم يدور في خطوط عديدة ويناقش الكثير من الهواجس اليابانية والعالمية، وكلها تعامدت وسارت بتواز في الجزء الثاني من الفيلم الذي عالج القصة في العالم الميتافيزيقي، حيث نرى الحنين للطفولة، فاجعة الفقد، العزلة الاجتماعية، العنصرية الاجتماعية، جنون العظمة وهوس السيطرة، الصداقة، الثقة بالنفس، كل ذلك من خلال عناصر ذات منهج رؤيوي أخروي كما هو معتاد في أعمال الأنمي الكثيرة، كما أن الجانب الرثائي يسيطر على الفيلم، ولكن مع ابتهاج مدهش يبرز من خلال التلوين الحيوي الذي عولجت به لوحات الفيلم ذات الأصالة الرسومية، والموسيقى التصويرية المصاحبة التي حملت توقيع وبصمة تاداشي يويدا. يعتبر الفيلم تجربة ساتو الأولى في مجال الأنمي، فهو وإن كان قد قدم فيلم إثارة سينمائي عام 2001م، ثم قدم هذا العام فيلما سينمائياً مقتبساً عن مانجا هيرويا أوكيو «جانتز»، والتي سبق وأن تم تحويلها إلى مسلسل أنمي تلفزيوني عام 2004م، إلا أنه في هذا الفيلم يقدم تجربته الأولى الكاملة في عالم الأنمي، على الرغم من القالب ثلاثي الأبعاد، الذي ربما لم يمنح تجربته مداها الكامل. لا شك أن الفيلم مغرق حتى النخاع في الثقافة اليابانية من الناحية الشكلية أو حتى على صعيد المضمون الذي طعم بعناصر ثقافية أخرى، وهو ما يجعل منه فيلماً يحسن الاختباء كما سبق وأن أشرت في بداية المراجعة، لكن جودته النوعية وارتفاع مستواه الفني ومعالجته الفذة، جعلت منه سفيراً جيداً للأنمي في العقد الأول المنصرم من الألفية الجديدة.