دخل العصر الحديث إلى العالم العربي عبر البوابة المصرية , سواء عبر بعثات محمد علي إلى أوروبا , أو عبر صوت قنابل مدافع نابليون على الشواطئ المصرية , وكان لمصر الريادة على المستوى النهضوي إقليميا ,فطوال القرن الماضي كان داخل التجربة السياسية المصرية إرهاصات متعددة تشير إلى ولادة الدولة المدنية الحديثة ذات الأرضية الديمقراطية لاسيما مع نشاط الحياة السياسية وتأسيس الأحزاب, والبرلمان المنتخب شعبيا , أو عبر أسقف مرتفعة للحريات تتيح للحراك الفكري أن يسهم في دفع عربة التجربة إلى الأمام.. لكن مع ثورة يوليو 52 وقفز العسكر على الحكم اختُطفت مصر , وانقطع التواتر الزمني في التجربة الديمقراطية هناك, تلك التجربة التي كان من الممكن أن يكون لها انعكاساتها الايجابية على عموم العالم العربي, لكن مع الأسف أدخلت بدلا من هذا في أجندة العسكر , والعسكري لا يرى الحسم إلامن خلال فوهة الدبابة والبندقية . وأقصيت مصر عن مشروعها الحضاري , وتورطت بلعبة الخطب النارية القارعة لطبول الحرب ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة , وتورطت مصر بعدد من الحروب والمواجهات التي كانت تجيّر طاقات مصر البشرية والمادية إلى نهم الآلة العسكرية على حساب جميع المشاريع التنموية الأخرى من تعليم وصحة وبنى تحتية تؤسس لمشروع حضاري , وظلت مصر وسكانها يعانون من تبعات تلك المغامرات لأجيال طويلة , وأتت القيادات العسكرية اللاحقة تحاول ان ترمم الخسائر عبر المعاهدات السلمية, أو عبر الاتكاء على رأس المال الليبرالي , والشركات العابرة للقارة مع استمرار أحكام الطوارئ , وطغيان المركزية , وإجهاض التجربة الديمقراطية , مع استشراء الفساد والمحسوبية, فبدأت تتآكل الدولة من الداخل , وبدأت المؤسسات المدنية تتفكك , ونشأت طبقة المتنفعين والوصوليين وصيادي الفرص بشكل فاحش ومكشوف , بينما الأغلبية العظمى كانت تعاني بشدة من سوء الوضع الاقتصادي وغياب الخطط التنموية التي تستثمر مخزون الفرص الاستثمارية الهائلة في مصر , ولم نعد نسمع في وسائل الإعلام المصرية سوى عن أزمات: أزمة خبز أزمة مواصلات أزمة تعليم أزمة ذوق , صاحب هذا انهيار كامل في الفعل الحضاري بجانبه الفني والجمالي حين كان العالم العربي يقرأ لمفكري مصر ويشاهد أفلامهم ويطرب لأغانيهم , وأصيبت التجربة المصرية الإبداعبة هناك بالشح والخفوت , وانتشر في غالبية النتاج الإبداعي الذوق الهابط وفن المقاولات الغرائزي، والعمل المسلوق الخالي من القيمة ,وتحولت إلى دولة رخوة . يعرّف الكاتب المصري جلال أمين (الدولة الرخوة ) بأنها دولة من صفاتها أنها تصدر القوانين .. ولا تطبقها..لأنه في الدولة الرخوة لا تجد من يحترم القانون فالكبار المسيطرون لا يبالون به ..لان لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه..أما الصغار فيتلقون الرشاوى..لغض البصر عن مخالفة القانون.. ومع انتهاء مرحلة هل ستعود مصر لنا الآن ؟ هل ستفلت من قبضة العسكر؟ يقول الشاب وائل غنيم أحد المدونين الذين شاركوا في ثورة 25 يناير في مصر (مصر تقلب صفحة وستخط سطرا جديدا في تاريخها فانتظروها).. بالتأكيد نحن ننتظر مصر المفكرين الكبار والروائيين النوبليين , والفنون والآداب التي لطالما غذت عقولنا وأغنت أرواحنا , العالم العربي ينتظر مصر .. مصر الجديدة.