وما أكثر اجتهادات الأئمة, خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع غير المسلمين, والتي فقدت قابليات توظيفها بفعل تقادمها التاريخي, فأصبحت قيداً لا يستطيع مسلمو اليوم الانفكاك من تبعاته السلبية ! قبيل المباراة النهائية على بطولة دبي الدولية الودية لكرة القدم التي أقيمت في السادس والعشرين من شهر يناير الماضي, وقف بعض لاعبي فريق نادي الهلال السعودي مع زملائهم من فريق نادي (زينيت) الروسي دقيقة واحدة, تضامناً مع أرواح من قضوا في التفجير الإرهابي الذي وقع في مطار (دوموديدوفو) الدولي، جنوب العاصمة الروسية, في الرابع والعشرين من يناير الماضي, والذي أسفر عن مقتل وإصابة العشرات. هذا التضامن الرمزي من قبل بعض أفراد الفريق الهلالي قوبل بمواقف متناقضة, بعضها مبرِّر بحذر, والآخر منها منذر بخطر!. أبرز المواقف المبررة جاءت على لسان رئيس نادي الهلال الأمير عبدالرحمن بن مساعد, بقوله:"إن قيام البعض من اللاعبين بالمشاركة في دقيقة الصمت، ربما يؤلف القلوب تجاههم كمسلمين, ويعطي صورة لهم بأنهم يحترمون عادات وتقاليد الآخرين غير المسلمين. وبالتالي كان هذا هو الهدف, وهو إعطاء فكرة لهؤلاء بأننا كمسلمين ماعندنا مشكلة معهم ,,إلخ". وعلى هامش هذا (التبرير!), كان رئيس النادي على موعد مع تبرير آخر تجاه إظهار لاعب الفريق المحترف الروماني:( ميريل رادوي) لرسم الصليب على ساعده الأيمن, قال فيه:" أحب أن أقول إن نصارى نجران عندما قدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينةالمنورة استقبلهم في المسجد وكانوا يحملون الصلبان وبالتالي ينبغي أن نحترم حريات معتقدات غير المسلمين. وهذا موجود في شرعنا الإسلامي,,,إلخ". لكنه استدرك قائلاً:"... ولكن هذا لا يعني موافقتنا له بأن يقوم بهذا العمل في ملاعبنا, فنحن ضد الشعارات الدينية, وبالتالي سيكون الحل أنه سيرتدي قميصا (كمه طويل)". فيما جاءت المواقف المستنكرة, وفقاً لما اطلعت عليه منها, من خلال غمز بعض الكتًّاب الرياضيين من قناة التنافس النصراوي الهلالي, بتوظيف الحادثتين(= الوقوف وإظهار الصليب) ضد نادي الهلال, بالإيهام بأنه -أعني الهلال- أتى منكراً من القول وزورا!. أحد أولئك الكتاب رفع عقيرته متسائلاً:"من قال إن وقف اللاعبين لدقيقة صمت أو حداد أو ما شابه، أمر لا يستحق كل هذه الضجة, غير صحيح، هناك ثوابت يجب عدم تجاوزها". ولذلك, فهو ينعى على أحد الإعلاميين الهلاليين أنه" لا يريد الحديث عن وقفة لاعبي الهلال حداداً على أرواح أحفاد (لينين وستالين!). ولا عن صليب كابتن الهلال في دبي (رادوي)". ثمة كاتب آخر ذكَّر الهلاليين,على طريقة: ويل للشجي من الخلي, بأنه:" عندما (تورط!) فريق النصر قبيل مباراته الودية مع فريق لاتسيو الإيطالي بالوقوف دقيقة صمت، فتحوا (= كتاب وصحفيو الهلال), أبواب الجحيم على الفريق الأصفر، وشنوا حملة انتهازية على نجومه، واستنجدوا بالفتاوى الشرعية. وقبل أن يغلقوا هذا الملف، شاءت الأقدار أن (يتورط!) فريق الهلال بما وقع فيه فريق النصر، حيث وقف لاعبو الهلال دقيقة صمت قبيل إحدى مبارياتهم في دبي، حزنا على ضحايا تفجيرات موسكو، تماما كما فعل النصر. الفارق الوحيد هذه المرة, أن معظم الذين شنعوا على النصر وقفته تحدثوا عن وقفة الهلال، لاذوا بالصمت، فيما راح بعضهم يبحث عن أعذار ومبررات لوقفة فريق الهلال، حتى كادوا يقولون: إن دقيقة الهلال هي على الطريقة الإسلامية!". هذه الاعتذارات المبررة بوجل, وتلك المعاكسة لها, توحيان لمن ليس لديه اطلاع على الإسلام بتعاليمه الصافية, خاصة من غير المسلمين, أن الإسلام ربما يكره, هذا إن لم يُحرِّم, الوقوف مع غير المسلمين في الضراء, ناهيك أن يقف معهم في السراء!. غير عابئين ولا متمثلين لقول الحق سبحانه:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين". وإذا كان البر يعني (الإحسان), وهو مفهوم متصور في السراء, كما في الضراء, فإن شموله في الضراء سيكون من باب أولى . يضاف إلى ذلك, أن لمثل تلك المبادرة التي تعبر عن تضامن الروح الإنسانية, أصلاً تقاس عليه. يتعلق الأمر بما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم من قيامه لجنائز غير المسلمين, كتشريف منه للروح الإنسانية على أي ديانة أو نحلة كانت . فقد روى عبد الرحمن بن أبي ليلى, كما عند البخاري ومسلم, قائلاً:" كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما, فقيل لهما إنها من أهل الأرض, أي من أهل الذمة, فقالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّت به جنازة فقام, فقيل له إنها جنازة يهودي, فقال أليست نفسا؟". أما فيما يتعلق بإظهار الصليب, فإن الإنسان السوي ليتملكه العجب حينما يقارن بين مثل تلك الاهتياجات التي قد تثار لمجرد إظهار متدين مسيحي لرسم صليب على ذراعه, وبين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران, الذين سمح لهم, لا بمجرد إظهار صلبانهم فحسب, بل, وبإقامة صلواتهم في مسجده. فقد روى ابن كثير عند تفسيره آية المباهلة, قائلاً:" قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر قَالَ : قَدِمُوا( يعني نصارى نجران) عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِده حِين صَلَّى الْعَصْر، عَلَيْهِمْ ثِيَاب الْحِبَرَات جُبَب وَأَرْدِيَة مِنْ جَمَال رِجَال بَنِي الْحَارِث بْن كَعْب، قَالَ : يَقُول مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا رَأَيْنَا بَعْدهمْ وَفْدًا مِثْلهمْ, وَقَدْ حَانَتْ صَلاتهمْ, فَقَامُوا فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( دَعُوهُمْ), فَصَلَّوْا إلَى الْمَشْرِق". ومن المعلوم أن صلوات المسيحيين لا بد وأن تتضمن رفعاً للصلبان. ولعل السؤال الذي يفرضه السياق هنا هو: هل إقامة المسيحيين, أو النصارى بلغة القرآن الكريم, صلواتهم في المسجد النبوي الشريف, بما تتضمنه أصوات ورفع للصلبان, أهون على الله وعلى رسوله من مجرد إظهار لاعب لرسم صليب على ذراعه؟. الإجابة على هذا السؤال لا تستبين إلا إذا نحن تذكرنا أن الثقافات محكومة, ولا بد, بأنساقها, وأن النسق الذي بقي ثابتاً يقود الوعي واللاوعي الإسلامي تجاه مسألة العلاقات مع غير المسلمين, ظل يمتح, لا مما جاء في القرآن الكريم أو ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم, بقدر ما يمتح من اجتهادات فقهية أُنتجت لحساب أزمنة سياسية ماضية . ولعل هذا ما أحس به الحافظ ابن حجر في فتح الباري, عند شرحه للأثر السابق ذكره من صحيح البخاري,فقال:" واستُدِل بحديث الباب,(=باب القيام للجنازة), على جواز إخراج جنائز أهل الذمة نهاراً غير متميزة عن جنائز المسلمين, أشار إلى ذلك الزين بن المنير, قال: وإلزامهم بمخالفة رسوم المسلمين وقع اجتهاداً من الأئمة". قلت: وما أكثر اجتهادات الأئمة, خاصة فيما يتعلق بالعلاقات مع غير المسلمين, والتي فقدت قابليات توظيفها بفعل تقادمها التاريخي, فأصبحت قيداً لا يستطيع مسلمو اليوم الانفكاك من تبعاته السلبية !.