في خضم الانتفاضة المصرية، كتب مؤيدوها من المثقفين عبارة لم تكن ابنة اليوم، بل هي أقرب إلى ترديدة على أفواه المصرين والعرب، تقال في الجد والهزل، في الانتصارات والخيبات، في الأناشيد والأغاني والأمثال : "مصر أمّ الدنيا". ومصر التي ورد اسمها في الكتب المقدسة : التوراة، الأنجيل، القرآن، يرجّح احتمال تسميتها بأم الدنيا الى حكاية هاجر المصرية التي تزوجها ابراهيم، فولدت لهما ذرية عدت نواة الديانة التوحيدية. هذا ما تؤكده أدبيات المسلمين في مصر. ولكن جمال حمدان في كتابه "شخصية مصر" يرى في عبقرية المكان، وسحر الجغرافيا تكمن عظمة مصر، مصر أم الدنيا. وهناك فرضية أخرى تقول ان التسمية وردت على لسان الساكنين في أطراف العاصمة، فمصر تعني القاهرة عند الفلاحين او القادمين اليها من الصحراء أو المدن البعيدة، والدنيا هي تلك التي لم يقيض لهم رؤية ما يشبهها في العمران والتطور. وأيا كانت أصول تلك الكلمات التي تنسب إلى مصر باعتبارها سيدة الكل، تبقى تعني عند العرب، على الأقل، تاريخاً للتقدم والتطور الفكري والأدبي. ورغم ان محمد علي باشا واضع أسس النهضة المصرية الحديثة، لم يكن مصرياً، غير انه كان بمعنى ما، مصري الانتماء. فكرة التحديث التي زرعت بذرتها الغزوة النابليونية، أثمرت في عهده عمراناً وتطوراً قل مثيله في الشرق الأوسط، ولكن ذريته غدت مكروهة بعد أن توارثت عرش مصر، فرفعت ثورة عرابي شعار "مصر للمصريين" ، في إشارة الى كل مستعمريها : حكامها الألبانيين، والدولة العثمانية التي جلبتهم، والبريطانين الذين تطلعوا إلى خلافتها على أرض مصر. كانت مصر تبحث عن هويتها في خضم تلك الولاءات، وبقيت إلى اليوم أسيرة شعارها : مصر أم الدنيا، مصر الكبيرة، المؤثرة، القادرة، المبادرة في صنع إمثولتها. وها نحن نستعيدها بعد الانتفاضة حتى نكاد ننسى الإمثولية التونسية، فكل الأفعال تحتفظ ببكارتها في مصر. بين قول سعد زغلول من أن العرب أصفار بالنسبة للأمة المصرية، وما صنعته كاريزما الناصرية في العالم العربي، خيط رفيع، خيط يتحدد في البحث عن موقع للهويات الحائرة لمصر، أمة سعد زغلول المكتفية بعظمتها، وأمة جمال عبد الناصر التي تمتد من المحيط إلى الخليج. الانتفاضة الحالية قد تنسينا طموحات الزعماء بخيرها وشرها، ولكن بين الجيل الذي عايش خيبات الحالين، هناك من يذكّرنا بها أو تطل في كتاباته بوعيه أو بدونه. ظلت مقولة سعد زغلول تظهر وتختفي في تنظيرات المثقفين المصريين، حيث جسّدها طه حسين في كتابه " مستقبل الثقافة في مصر" 1938 الذي قال فيه بالنص: " من السخف الذي ليس بعده سخف اعتبار مصر جزءا من الشرق، واعتبار العقلية المصرية عقلية شرقية كعقلية الهند والصين" وكي يوضّح مقاصده بعبارة واحدة يقول " انما كانت مصر دائما جزءاً من أوروبا". وسنجد الطرح نفسه بصيغة مختلفة في كتاب جمال حمدان " شخصية مصر"، وإن كان للجغرافيا تلك القدرة على تجاوز التاريخ. والحق إن تنظيرات طه حسين وجمال حمدان لا تنطلق من نظرة عنصرية، قدر ما تبحث عن هوية متميزة لمصر، فحديث التفوق الذي تكمن خلفه النزعة الوطنية، يمزج دائما بين الخرافة والحقائق، ولعل تأكيدات طه حسين من أنه لا يخترع هوية لبلده، تذكرنا بمنظري الحداثة حول الأمة وتكوينها وبينهم بندكيت اندرسن الذي تحدث عن فن اختراع الأمم، وهو فن مشروع في كل الأحوال، إذا أحسن القادة والمنظرون توجيهه على نحو صائب. حكاية هاجر وابراهيم هي المرجع الذي من خلاله يمكن تتبع رحلة الميثولوجيا ورمزية أماكنها وصيغ تأويلها في التراث الإسلامي وهو السائد على مدى العقود الأخيرة في مصر. فالدعوة التوحيدية التي مثلها ابراهيم بدأت من العراق رغم ان العراق كان بلد الانقلاب عليها لاحقا، ثم رحلت إلى مصر مع رحيل ابراهيم اليها، وتوقفت بل استوطنت في المكان المصري وتلاقحت معه، ثم حطت رحالها في الجزيرة العربية، حيث استطاعت ان تعثر على بعدها الأكثر رسوخا بسبب الطبيعة الصحراوية المتقشفة. هكذا علينا الربط بين مصر المؤنثة، مصر التي تصبح أم الدنيا، لا أباها، متناسين أعظم فترة في ازدهارها، حيث غدا اسم حاكمها "الفرعون" رديفا للطغيان. في هذه الأيام تستعاد كل العبارات التي امتزجت فيها حقائق التاريخ بأساطيره، ولكن الذي يخشى على مصر هو بالضبط هذه العبارة : "مصر أم الدنيا" ، فألقاب العظمة دائما لها أكلافها التي لا يدرك خطورتها المثقف ولا الأمي، ولكن يعرف قيمتها السياسي في رفع أسهمه وفي خلق فرص التفاف الجماهير حوله. فهتلر عندما كان يردد "ألمانيا فوق الجميع" كان يقصد بالضبط، أنه هو فوق الجميع، ولا حاجة بنا إلى شرح ما ترتبت على ألمانيا من أكلاف فادحة، جراء إيمان شعبها بهذه المقولة. كان جمال عبد الناصر القائد الكارزمي، قد أوصل العرب إلى الاعتقاد المطلق بهذه البديهة، حيث مصر أمّ الدنيا مادام قائدها أبو العرب. وإلى اليوم ترفع شعارات القوميين في مناسبات شتى معلنة شعورها باليتم لغياب ناصر القائد الأب. قلده القذافي وصدام حسين وسواهما من الموجودين والراحلين، سواء بافقار شعوبهم، أو بدخولهم مغامرات الحروب والخطب الرنانة، كي يكونوا فوق الجميع. نجح صدام حسين في أن يحتل مكانته بين القوميين العرب والكثير من الإسلامين، بسبب فحولته الفائضة وقسوته المفرطة. ولكن تبقى لناصر مكانة خاصة يستمدها ربما من وهج زمنه الجميل، حيث الأغنية تصدح في وجدان كل مصري وعربي " مصر التي في خاطري" كل الشعوب بها حاجة إلى الشعور الوطني، والمشاعر الوطنية لا تخلو من اعتزاز خفي بالبلد الذي ينتمي إليه الفرد، وهذا قد يدفع في درجاته القصوى، إلى ممارسة ضرب من الشعور بالوصاية على الشعوب الأخرى، وهي أخطر أنواع الانصراف عن المهمات الوطنية. لا يبدو الشباب الذين يرفعون شعار الحرية والخبز في ساحة التحرير، على صلة بالآباء الذين يفاوضون عنهم او يتكلمون باسمهم، فكل الأحزاب التي جربها الناس تحلم بحلم مصر القديم الذي كلفها الكثير، فهل يوقظهم الشباب على حقيقية بسيطة، لا تحتمل عبء خيبات الأجداد؟ : مصر ستكون أمّ الدنيا عندما تعمل بصمت لنفسها لا بشعارات العظمة التي أكل الدهر عليها وشرب.