تبدو أدمغتنا مع الأحداث الأخيرة كإسفنج مثقلة بماء الأخبار التي تصب فيها ليل مساء , لذا يبدو من المغامرة أن نعاود الكتابة عن الأحداث في مصر بعد أن اكتسحتنا في كل منفذ إعلامي نقترب منه , كما أن الأحداث تطّرد وتترى بسرعة فائقة بالشكل الذي من الصعب أن نؤطرها في لغة المقال البطيئة المتلكئة . ولكن أمام هذا المشهد المحتدم لابد أن تستوقفنا بل وتسمّرنا بعض المواقف التي صنعتها الأحداث وجلبتها إلى الواجهة بعد أن كانت تختفي في كواليس السياسة وفي اللغة الدبلوماسية الشاحبة الباردة التي هي حتما لاتشبه التصريح المتعجرف الذي صرح به روبرت غيتس المتحدث باسم البيت الأبيض ,عندما قال (يجب على الرئيس المصري أن يغادر الآن والآن تعني الآن) ! هذه اللغة المتعجرفة الصادمة لوعينا والتي تشطر شعوب الأرض إلى قسمين قسم السادة وقسم العبيد , قسم يجب أن يفكر ويتقدم ويتطور ويملأ الدنيا اختراعات وفنونا وإنسانية , وقسم آخر يعيش في القاع بلا منجز حضاري , بلا احترام لحقوق الإنسان وبدون أنظمة سياسية متقدمة , بل قطعان هائلة عاجزة عن الصعود إلى مركبة المستقبل , تتناسل وتنمو وتتكاثر لتملأ الكون ضوضاء وعنفا وتغذي أتون الحركات الإرهابية في العالم بأجساد أبنائها. تصريح متغطرس يستجلب الصورة القديمة لإمبراطورية روما العسكرية التي كانت تقسم العالم إلى ولايات تقع تحت هيمنتها , ولاتمت هذه الصورة إلى الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأمريكي قبل مايقارب العام في جامعة القاهرة وابتدأه بقوله (السلام عليكم ) كيف تحولت لغة ذلك الخطاب المثقفة الراقية المفعمة بالقيم الحضارية التي تفاءل بها الكثير وقالوا إن أمريكا عبر رئيسها الملون تعلن هوية جديدة لتاريخها السيئ في المنطقة , تاريخ به دستور جيفرسون ونضالات إبراهام لينكولن وحلم مارتن لوثر كينج وقصائد مايا أنجلو وكتابات نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد وروايات توني مورسون وأغاني بوب مارلي . ولكن ماشاهدته (مصر) عند أول منعطف مصيري تعرضت له ليس سوى كاوبوي يمتطي صهوة حصانه، ويطلق الأعيرة النارية في الهواء بصورة بلهاء وغير موزونة ويرهب من حوله بقوله Now means now وكأنه يملك الحل الوحيد والسحري مغفلا بكل هذا إرادة شعب من أعرق شعوب المنطقة له آماله المستقلة , وطموحات شبابه الأذكياء المتوقدين صانعي مستقبل مصر , بالإضافة إلى مفكريه ومثقفيه ورجاله الذين ليس بحاجة إلى كاوبوي يجيّر جهود ثورتهم الشامخة لنفسه , وينصب نفسه مدافعا عن قيم الحرية والديمقراطية في العالم . وبالتأكيد أصحاب القرار في الولاياتالمتحدة يعلمون أنهم لايمتلكون الكثير من الشعبية في المنطقة وبين شعوبها لاسيما بعد غزو العراق ، ومحاولتها منح نجمة الشريف الأمريكي لبعض الرموز في مصر لن تعلي من سطوة أو شأن تلك الرموز ، بل على العكس ستبخسهم الكثير من وطنيتهم وإخلاصهم ونزاهتهم بين جماعاتهم. مشهد غيتس وهو يتلفظ بهذه الجملة يذكرنا بالرئيس السابق بوش عندما كان يصرح بأن الله سبحانه وتعالى قد خاطبه شخصيا وأمره بغزو العراق , وأن غزوته هذه هي إحدى الحملات الصليبية على المنطقة . لا أود أن انخرط هنا ضمن الجوقة المعتادة التي اعتادت أن تشتم أمريكا ليل نهار وتعلق فوقها كل الشرور والآثام , ولكن كثيرا ما نصاب بالذهول والدهشة على مدى تأثر البيت الأبيض في كثير من الأوقات بأفلام الكاوبوي والوسترن الهليودية..