كأنني ألتقيه بعد غياب، هذا النهر الذي لم ألمحه إلا متوارياً كلما زرت بغداد، وجدته بانتظاري هذه المرة في أكثر من مكان، نسيت حتى قصيدة الجواهري "دجلة الخير" وعز عليّ ان أحاول السؤال عنه. كنت أمر بسباخ كما رأيت العراق في الحلم، فيشتد عطشي ويبتعد عني النهر والناس والبنايات. كانت شوارع بيروت خالية في طريقنا الى المطار، ووجدنا بغداد خالية عندما وصلناها. تبقى بيروت صغيرة، وعندما يفر ناسها من أخبار الحرب إلى بيوتهم، يمكثون على مقربة منك أنت السائر على غير هدى في الأماكن. تستطيع أن تشم رائحة القهوة وراء الشبابيك والأبواب الموصدة، لكنك ببغداد تشعر بالوحشة والحافلة تعبر بك وتمعن في إحساسك بالانقطاع. تحاول العين عبثا أن تلتقط صورة المدينة وهي تهرب منك وتهتز، ما أن تعثر على حياة مأهولة، حتى تجدها موصدة أمام ناظريك. النخيل وحده يقاوم كي يبقي للمدينة روحها، كي يطرد عراء الأماكن وأسوار القصور، والسقوف الوطيئة لمزابل وأكواخ أشيدت من الخرق وبقايا صخور وقطع كارتون. تأتيك الأناشيد والرايات وتلمح مسيرة لأناس يتوشحون السواد ولا يحملون أعفاشاً، يتقدمهم فتيان يعصبون رؤوسهم على هيئة السندباد. هكذا تتذكر من طفولتك البطل الهندي الذي مثّل دور السندباد ورُسم وجهه في اعلان سينمائي. غجر جميلون تلوّح وجوههم الشمس، بعضهم يضع الزيوت على شعره، ويحوّط حنكه بخط الشعر الرفيع. لم أكن أعرف قرابة بين أشكالنا نحن العراقيين، وأشكال الغجر في أفلام أمير كوستريكا، حتى رأيتهم. كنت أهجس بشبه بين أحداث العراق والأحداث التي كتب سينورياهاتها هذا المخرج الغجري، أقسم انه غجري، رغم كل ما يقال. أنظروا إلى صورته وهو يعزف البوق بين جوقته. في فيلميه الرائعين "وقت الغجر" و"قط أسود،قط أبيض"، كانت النكتة السوداء تجري تحت دغل الحقائق المرة ليوغسلافيا الغاربة عن الخريطة، للبوسنية بلد أمير كوستريكا التي لم يحبها. هكذا علي أن أبحث عن غجره وأنا أدخل العراق. أغاني وصنوج وطبول بعيدة وقريبة، بغداد تعلن هويتها الجديدة بحرب الرايات، الريات وحدها ملونة وتعج بالصور، صورة ايقونات بالرسوم البدائية تتكرر في كل مكان وعلى كل حيطان البلدة. المطر والبرد صيّرها خرقا مهلهلة، ولكنها تذكرك بحزن مؤبد، حزن يتسلق الشرفات والجوامع والدوائر والدكاكين. ولكن دجلة هذا المخاتل يقول غير ذاك، أنه يجري هذه المرة مرحاً مختالاً بعرس الحياة، قدرٌ من الكبرياء تكفي كي ينشر حكمته وكرمه على الضفتين. تحت شمس الصباح تريد أن تحاور النهر، حيث يهبط الملاك مع حركة النورس وهو ينساب في مجرى الموج، تتخاطف زوارق البوليس، فتهتز المياه ومعها الكلك الطافي على مقربة من الجرف، فتطير النوارس أسراباً لتحط مرة أخرى على مقربة منك. خلف تلك الأكَمَة البعيدة وعلى مسافة النهر يقبع المجهول، زورق البوليس بمدفعه الخفيف يشعرك بالأمان، مثلما يذكّرك بما تحب نسيانه. أن ترى دجلة، أن تشعر رشاقة انزلاق حبيبات الماء على راحتيك. يتنهد النهر في سكون، وتنظر الخرائب على ضفتيه تلوذ بصمتها، وتلك البيوت الفارهة على الضفة الأخرى. تنفجر الأصوات في ايقاع واحد ممجدة الرب، ويأتيك الفتى بسمكه المسكوف. آه انني أمسك العراق براحة كفي، أمسكه كما أتأبط أوهامي كلها تحت المعطف الذي أرتديه. لا أستطيع نكران ما تبصره عيناي وما تهجسه بصيرتي، تخفق بين جوانحي شمس صافية، ورائحة الحلفاء تطرق رأسي، مثل تلك الذكريات التي تقطع حبل صمتي بالكلام. أجهد كي لا أرى ما أبقته الحواف الصقيلة للغربة، تلك التي نحتت هياكلها في داخلي، فغدت توخز ضلوعي مثل أشواك تصطف على امتداد هذا البلد الذي لم يعد لي، ضاع مني يوم أن غادرته، وعبثا أحاول استعادته. الاتساع الشاسع لبغداد يخيفني، وأنا في عزلة القحط لا أتحرك من دون حماية الرجال. شهقت عندما رأيت شابتين تسيران وحدهما في الوزيرية، الصديق الذي يرافقنا ذهب لملاقاتهما، فهو على معرفة بهما، ولكنه كان يريد ان يخاطب هواجسي، فهمت رسالته وضحكت من كرمه. هكذا تجد الأصداء تأتيك من بعيد، شابتان احداهما شقراء والأخرى سمراء، لباس بسيط ومظهر حضاري ينسيك ما أصاب نساء العراق من أهوال. في دار الكتب والوثائق والمخطوطات، ستذكر الأمهات الملفعات بالسواد يتخاطفن او يجلسن بانتظارك عند المدخل للتأكد من هويتك. كدت لا أصدق عينيّ للوهلة الأولى، ولكني خجلت من مظهري، فبدأت أجر طرفي أكمامي إلى الأسفل. كن كريمات ودودات، ومتفهمات، فبدأت أنسج القصص حولهن برأسي: من كانت بعمري أو أصغر قليلا كانت ترتدي غير الذي ترتديه الآن، ولكنه الحداد لا يليق إلا بنساء العراق. يبدو أن الكارثة لا تأتي من الحروب فقط، بل من مكر اللغة وتحايل الكلمات، فمن سمى العراق أرض السواد، كان قاب قوسين من الحقيقية، وإلاّ لمَ لمْ يقل أرض الخضرة او أرض الزروع أو أرض الخصب. السواد لم يعد شعاراً وحسب يرفعه الناس على بيوتهم، بل هناك من يسعى كي يغدو هوية، وأخطر ما في الحزن إدمانه، بل استعذاب عذابه، أنه علامة شؤم كما يقول أهل التقى. الحرية، تلك الكلمة التي يرددها المثقفون في عراق اليوم، عبر تظاهراتهم وفعالياتهم وكتاباتهم، تطمح أن تتحول مطلبا وجودياً يتحدى المظهر الناجز للقمع السلطوي، ذاك الذي تتخمر تحت شمسه الحارقة قيم مجتمع خائف ومطارد من أشباح تعبر سماءه منذ عقود. المثقفون لا يدافعون عن صورة حضارية وجميلة وتعددية للعراق فقط، بل يسعون إلى نفوسهم وهي تدرك فعل الرفض لقيم التخلف، فالعدمية التي يتصف بها العراقي اليوم من دون مواربة، هي نتيجة الكبت والحرمان التي طاولت أخص خصوصياته، أنه يطرد الخوف باللامبالاة، فقد سلب حقه في مواجهة الواقع، وعليه أن يجد الحقائق في مكان آخر. ترى العراقي اليوم يحرص على ان يقنعك بورعه وتدينه، وتجري على لسانه كلمات العزة والنخوة والشرف، وهي مفردات تعتاش عليها السلطة في الماضي والحاضر، لعلها رومانتيكية الرثاثة التي استهلكت نفسها في الرحلة المعكوسة للبشر، حيث يفرح الإنسان لغنيمة يسلبها من جاره وأخيه وأقرب الناس إليه. عندما يتحول اسم الرحمن شعاراً لكتائب الموت، تحل اللعنة على البلدان كما يقول الأتقياء، فقد خط صدام الموغل بالقتل، اسم الجلالة بدمه على علم العراق، وليس بغير دلالة أن يبقى هذا العلم مرفرفاً على سقوف الحكومات التي خلّفته. كنيسة سيدة النجاة لم أدخلها، وكانت مشاهد الدماء والرصاص الذي يثقب الايقونات وصور العذراء تمنعني من استعذب جلد عيني بهذا المظهر. لوحة العشاء الرباني، أو العشاء الأخير تجدها معلقة في كل مكان مسيحي تقصده، حتى اولئك الذين غادروا الطقس الديني، استعادوا هويتهم بالايقونات. المسيحيون مسكونون بالخوف، والشباب منهم يضمر فرح من ينتظر دعوة للذهاب الى الغرب، ومن بقي منهم لا يلقي التحية إلا بمفرداتها الإسلامية. تعلّم شبابهم أن يكونوا مثل البقية، ينتحلون لهجة أخرى ويستمعون إلى الاغاني ذاتها، مزيج من الأصوات الرفيعة وإيقاعات الغجر، يخبرك أحدهم ان الحمل تأكله الذئاب. ثلاثة كلاشنكوفات يركنها القس في غرفته، وعندما يرتدي جلبابه، يخفض الرأس ورعاً أمام الكاميرا. وهل يملك العراقي سوى فرصة واحدة كي يضمن البقاء. حتى فتيات التفتيش في المطار كن من القبضايات في المظهر والمخبر، فالشقاوات حسب التعبير العراقي، هم الإمثولة السائدة بين الشباب، ما يحلم به الفتى مهنة البدي كارد، حارس او حامي أو سائق مسؤول، فلن يكون للثروة والجاه من معنى إلا تحت الظلال الوارفة للسلطة. المثقفون يدركون ربما أول مرة هامشيتهم، فائض الكلام الذي لم يعد له أي معنى والعراق بلد الجماهير، تلك الجموع التي تسير في استعراضات المسيرات المليونية. طقس البهجة الذي يتوشح بالسواد، فمارثون العراق طويل كي يصل الى دولة تحفظ للمواطن حقه. ومن يريد الحق وهو يعيش كفاف يومه على أيقاع الماضي؟ فالموت وحده يمنح العراقي راحة العبور الى ضفة التكفير عن ذنب صنعه الأجداد، تلك المازوخية التي يتلذذ بها الباذخون ورعاياهم. ولن تجد للحياة أية قيمة حين يتوسل العراقي الثواب بموت يصنعه انتحاري يفجر نفسه بين الجموع، وهل هناك كبير فرق بين شجاعته وشجاعة المخاطرين بحياتهم كي يصلوا عتبة السماء؟ معادلة الموت العراقي بسيطة بساطة الحياة التي لا تريد أن تقف على الأرض، نوع من المزاج السوداوي الذي يكتمل بخراب النفوس حين يصل يأسها الى أقصاه، إلى عدمية. قال الأصدقاء: قدمتم في الموعد الخطأ، وكنا نقول لأنفسنا، متى كنا مع العراق في الموعد المناسب؟ ضرب من الفضول إن شئنا تفسيره ببساطة، كي نرضي النفس الأمّارة بالشوق، نحن هنا حيث الوطن قاب قوسين من غيابه. سنكرر هذه الأخطاء في كل فرصة سانحة، من أجل فرحة اللقاء التي لا يشبهها فرح الذهاب إلى كل مدن الأرض.