لا يأتي ذكر الشعر النبطي في معظم كتابات الدكتور عبدالله الفيفي -كما أشرت في المقال السابق- إلا كمدخل للحديث عن مساوئ هذه الحياة أو بوصفه امتداداً للشعر البذيء الذي تهاجا به شعراء العرب وحاملاً جيداً للقيم القبيحة التي تضمنها الشعر الجاهلي، ويرى فيه أيضاً خطراً يتجاوز المسألة اللغوية إلى مسائل "فكرية وثقافية واجتماعية وأمنية ممّا يهدّد وحدة المجتمع واستقراره وتطلّعه إلى حياة مدنيّة حديثة"، ويطرح الفيفي أيضاً في أحد مساقاته تساؤلاً غريباً مفاده: أفيمكن لمن تشرّب قِيَم الشِّعر النبطيّ، أو كان شاعراً نبطيَّاً، أن يعمل خبّازاً أو حدّاداً، فضلاً عن أن يشتغل عامل نظافة؟! كلاّ لن يفعل، ولو تسوَّل، أو مات جوعاً"..؟! وهذا التساؤل يُمكن إدراجه ضمن الكثير من المبالغات التي يُحب الفيفي تطعيم مساقاته بها، فلو اتفقنا معه فرضاً على قبح القيم التي يحملها الشعر النبطي وكونها هي التي تُسبب بطالة شبابنا وتمنعهم من الانخراط في كثير من المهن والأعمال الشريفة فلا يُمكن أن نوافقه على أن الشعراء الشعبيين هم من صنع تلك القيّم ورسخها في نفوس الشباب، فسبب رفض هذه الأعمال لا يمكن تسطيحه إلى هذه الدرجة وعزوه إلى سبب واحد كما يفعل الدكتور هنا، وما صوت الشاعر الشعبي وغير الشعبي إلا صدى لفكر وسلوك ومعتقدات المجتمع الذي يعيش في وسطه. ولو تجاوزنا عن الآراء المُتشددة للفيفي من الشعر النبطي ومن مجمل موروثاتنا الشعبية التي لا يرى فيها أكثر من "موروثات نبتت في ظروف تاريخية بائسة ليست محل اعتزاز وليس فيها من مقومات الفخار إلا القليل" فسنجده يعود إلى الواقعية أحياناً وإلى لغة أكثر هدوءاً وإنصافاً فيذكر بأنه لا يعد الشعر النبطي شراً كله، ويخبرنا بأنه ليس ضد الشعر النبطي "من حيث هو شِعر، ولا يمكن أن يكون شاعراً ضدّ الشِّعر، بأي لهجة أو لغة" ويُضيف: "وكم أطرب كغيري لجيّد ذلك الشِّعر، وربما أكثر من شعراء العامّيّة أنفسهم، لأن طربي هنا لا طَرَبًا للهجة، أو لشِعر، أو للمضامين فحسب، ولكنه طربٌ أيضاً لأصالة فنّيّة يحملها بعض ذلك الشِّعر، ولذاكرةٍ يبتعثها في دارسٍ مثلي للشِّعر الجاهلي". وسنجد له مقالات قليلة -كمقال (معادلتنا العامية الانجليزية) وغيره- يتخلى فيها عن لغة المبالغة والتعصب ضد الشعر الشعبي ويوضح موقفه الصريح منه بذكر أمور قد يتفق معه المنتمون لساحة الشعر الشعبي في كثير منها كمسألة إيقاظ بعض الشعراء للعصبية القبلية بكثير من قصائدهم. أخيراً أعتقد أن مشكلة كثير من مُثقفينا ومَن يعدون أنفسهم أهل الرأي وصفوة الصفوة اعتيادهم على إقحام اسم الشعر النبطي في أحاديثهم وكتاباتهم على أنه سبب أو عامل رئيس من عوامل إخفاق العرب وتخلفهم عن ركب الأمم، وهو أمر مبالغ فيه ولا يُمكن أن يُصدق به ذو قلب وعقل، وأعتقد جازماً أن أفضل ما يُمكن أن تُثمر عنه كتابات الدكتور الفيفي –الذي أحمل له كل التقدير والاحترام كناقد حصيف وعالم جليل- وغيره من أولئك الكتاب هو صدور مؤلَّف يجمع تلك الكتابات!.