كن بحر المتدارك الذي تداركه الأخفش على أستاذه الخليل سبق وأن وزن عليه الخليل نفسه! لكن الخليل لم يدرجه في علمه المكتمل الذي يعدّ العلم الوحيد منذ خلقت البشرية مكتملاً! ولعل شيخنا الخليل رحمه الله الذي يعدّ من أذكى أذكياء الدنيا كان على علم بأن المتدارك وتفريعاته يمكن لأي شخص بالعالم أن يزن عليه حتى أطفال العالم ينطقونه على الفطرة منذ بداية النطق . والمتدارك :هو البحر الذي لم يذكره الخليل وتداركه غيره ، ولهذا سمي المتدارك وله عدة مسميات ، فيسمى بالمحدث والمخترع لاختراع وإحداث وضعه في البحور بعد الخليل، وبالمتفق أي المنتظم لأن كلاً من أجزائه على خمسة أحرف ، وبالشقيق لأنه أخو المتقارب، إذ أصل كل منهما وتد مجموع وسبب خفيف - وبالخبب لكن إذا خبن فقط تشبيهاً له بالخبب الذي هو نوع من السير فى السرعة. وبركض الخيل لأنه يحاكي صوت وقع حافر الفرس على الأرض. وضرب الناقوس لأن الصوت الحاصل به يشبهه إذا خبن»وأجزاؤه: (فعلن.فعلن.فعلن.فعلن) في كل شطر . في رواية «وكالة عطية» للروائي المصري خيري شلبي (1938م) وردت أغنية شعبية من ريف الدلتا تسمى ب «أغنية القمر»: لما بيجوا عمّاتي عماتي خمسة ستة يلعبوا تحت الدكّة والدكة يامحلاها شيخ العرب جواها ولعل من أشهر الأناشيد المتداولة ، ذاك النشيد الذي يبدأ ب»دوها يادوها ، والكعبة بنوها» إذ يتميز هذا البحر بمرونته الشديدة ، الأمر الذي جعله ينتشر انتشارا كبيرا في القصائد وقصائد الأطفال وقصائد الشعر الحديث والأغاني والمسرحيات الغنائية فإذا انعدمت الأوتاد وتوالت فيه الأسباب أو الفواصل حتى دون انتظام، فذلك هو الخبب بلا ريب . شوقي قلنا إن هذا البحر يخلو من الأوتاد سواءً الوتد المجموع أم الوتد المفروق مثل: o// و o/o/ ويتشكل من الأسباب أو الفواصل وبدون نظام ،.إذ يمكن لكل سبب أن يحل محل الآخر بسهولة دون أن يتغير الإيقاع الصوتي للحن هذا البحر ، ولو حللنا تفعيلة هذا البحر سنجدها (فعلن o/o/) بتسكين العين وتتكون من سببين (فعْ o/) و(لن o/) ما هي إلا سبب ثقيل وهو (فعِ //) وسبب خفيف وهو (لن o/) ويمكن لأي سبب أن يحل محل السبب الآخر بسهولة وتشكل حالات كثيرة فهذا هو الخبب ، وتطبيقه سيكون سهلاً جداً ، وسيجد من يزن عليه مدى سهولة تأليف أبيات كاملة ، وربما قصائد على هذا البحر ، وهي من يجب أن يتعلمه أولاً من يريد أن يعرف ماهو الوزن الشعري سواءً في الفصيح أو النبطي؟ فالخبب هو صوت الأشياء دقات الساعة مثلاً: تك تك .. تك تك وهكذا ، والخبب أساساً هو طريقة عدو الخيل الذي يتحرك ثلاث حركات (///) ثم يقفز ، وهو ضرب الأقدام كما ذكرت في بداية مقالي . نأخذ عدة أمثلة سواءً من اللهجات الفصيحة الدارجة أم من اللهجات الراطنة عربياً ، وحتى من الشعر الإنجليزي جديرة بإيرادها هنا .. فمن الشعر النوبي ، ورد في كتاب «أبكي،كبكي،شلالو يبكي» لمؤلفه الكاتب السوداني عمر طه مقطوعةً للفنان حمزة علاء الدين: هوي ووت تود إركل فجو إركل جوكن جو أيقا جل أشري سودلق جو أيقا جل سولق نويلق جو أيقا جل ومن الشعر المهري في اليمن ورد في كتاب «المهرة،القبيلة واللغة» لمؤلفه سالم لحيمر محمد القميري: إيدو ويد كريميدو ويد كريم هيبة الشرق شرقوتولبدوت قاع سهميج ومن الشعر السعودي المعاصر قال الأمير خالد الفيصل: ارفع راسك انت سعودي طيبك جاوز كل حدودي ومن الشعر اليمني قال محمد قاسم: يامحمد نصحتك مرّة والأخرى أنا باثنيها وورد في رواية «طائر الحوم» للروائي السوري حليم بركات (1933م) ، تحت عنوان «الشيخ الكبير»: دب دبيبي دبيها روحي للسوق بيعيها واشتري بتك حلاوي حلّي ضريساتك فيها وغنّى الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب (1902-1992م): يا دنيا يا غرامي يا دمعي يا ابتسامي مهما كانت آلامي قلبي يحبك يا دنيا وشدت الفنانة اللبنانية فيروز (1935م) من كلمات الأخوان رحباني: يا طير وآخد معك لون الشجر ماعاد فيّ إلا النّطرة والضّجر بانطر بعين الشّمس .. عا درب الحجر وملبّكة ... وأيد الفراق تهدّني كما صدحت الفنانة الكندية سيلين ديون Celine Dion (1968م) بأغنيتها الشهيرة (My Heart Will Go on) : Every night in my dreams I see you. I feel you. That is how I know you go on. Far across the distance And spaces between us You have come to show you go on. ومن الشعر الشعبي العراقي: اللي راح اللي راح كلٍّ ونّي ع اللي راح وفي رواية «بندر شاه» للروائي السوداني الطيب صالح (1929-2009م) وردت مقطوعة لشاعر سوداني مجهول: الدرب انشحط ، واللوس جباله أتناطن والبندر فوانيسه البيوقدن ، ماتن بنّوت هضاليم الخلا البنجاطن اسرع ، قودع ، أمسيت ، والمواعيد فاتن ولعلنا نختتم هذا المقال بأبيات اجتماعية جميلة لأول من وزن على الخبب من الشعراء النبطيين قبل حوالي ثلاثمائة عام وسمي هذا اللحن باسمه ، وأبدع به أيما إبداع ، إذ غير من تفاعيل القافية في قصائد ، وكذلك أنقص سبب خفيف من قصائد أخرى ، وأيضاً أبقى التفاعيل على ماهي عليه لتتوافق تماماً مع الخبب ، ولا عجب أن يلقّب ببيطار الأشعار ، وهو الشاعر حميدان الشويعر رحمه الله الذي سمي وزن الخبب نبطياً نسبة إليه باللحن الحميداني: لا جا ثورٍ يخطب بنتك ف اضرب رجله وقل له: قف! والله ما يسوى ملكتها ولا يسوى قرع الدف والله ما يسوى ضيفتها ولا يسوى ظلف وخف يظهر بنتك من بيتك ويذوقها جوع وحف إن سلمت من ضربه بيده ما سلمت من بفّ وتف! يروحن حيلٍ وملاط ويجن لقّح ومردّف!!