حينما تطرح سؤالاً عن اللبيرالية السعودية (تحديداً) فإنك ستقع في إشكال منهجي شائك جداً، والمبدأ المنهجي هو أن تسمي الناس بما يسمون به أنفسهم، ولا يصح أن تتقبل تسمية عامة تدور على الألسنة دون أن تتسمى بها الفئة المستهدفة بحثياً، ولو اعتمدت على العرف العام في إطلاق صفة على أناس لا يرون أنفسهم تحت تلك الصفة فأنت ترتكب خطأ منهجياً وآخر أخلاقياً، إذ إنك تدخل في لعبة التصنيف القسري، وهذا عادة تصنيف إقصائي، مثلما تقع في تحويل المعرفة إلى دعاية أكثر مما هي بحث موضوعي. ومن أجل توضيح هذا اللبس لنأخذ كلمة (السرورية)، وأنا أقول عنها إنها كلمة ولم أقل إنها مصطلح لأنني في كل ما يحثته عنها لم أجد لها أساساً اصطلاحياً أتكئ عليه، وكنت وأنا أعمل على كتابي (الخطاب الديني من المنبر إلى الشاشة) قد افترضت خطة تخص السرورية بمبحث خاص بها يكشف أبعادها ويقرأ خطابها، غير أنني لم أجد خطاباً يسمي نفسه بالسرورية ولم أجد شخوصاً تضع هذا العنوان كمقولة لها وكنظام مبادئ وكمنجز يشكل أدبيات هذا الفريق، وكل ما وجدته هو أن الكلمة تأتي من خارج الفئة لتصف قوماً بهذه الصفة وتنسب إليهم أفعالاً، وهذا ما أوقعني في شرك الخطأ المنهجي لأن كثرة ترداد الكلمة على ألسنة شباب كانوا في الصحوة ثم خرجوا عليها وصاروا يطرحون كلاماً في الإعلام وبعضهم ألف كتباً، وظلوا يشيرون إلى السروريين ويسمون بضعة أسماء يرونهم قادة مفترضين تحت هذا المسمى، وأمام هذا القول الذي هو شهادات من داخل المعسكر فإننا سنظن أننا أمام كاشف ثقافي يكشف عن أوراق المرحلة، غير أن هذا الكاشف لا يطرح ما يكفي لكي تقول فعلاً إنك أمام تيار ديني بهذا المسمى، خاصة أن الذين وصفوا بأنهم قياديون لم يقل أحد منهم قط أنه سروري ولم يقدم خطاباً من الممكن لك علمياً أن تقول إنه خطاب مختلف ومتميز عن غيره من الخطابات بحيث تتمكن من منحه صفة تخصه بما إن له مقولات تخصه فعلاً وتفرقه عن سواه، هنا ستكون أمام دعوى تحمل شحنة وثوقية عالية بما إنها شهادة من شاهد، وعلى الطرف الآخر سترى نفسك تمشي من غير برهان بحثي ومنهجي يدعم خطتك البحثية نظرياً أو عملياً. وقد يقول قائل إن السرورية تنظيم سري وإنه يتكتم على نفسه لكي ينفذ إلى المجتمع غير ملحوظ، وبالتالي فإن أولئك الشباب إنما يكشفون الأوراق السرية للحركة، وهذا زعم يمكن طرحه فعلاً، غير أنه يتبدد حينما تلاحظ أن الأسماء الموصوفة بزعامة هذا التيار هي أسماء مكشوفة وقولها مكشوف وآراؤها مكشوفة حتي الخطير منها وعدد منهم قد دفعوا ثمن أفكارهم بفاتورة مرتفعة جداً مما يزيل احتمالية التحرك السري، خاصة أن ما هو أخطر منهم وأقوى منهم سرية قد انكشف وبان، ثم إن السرورية هي اسم ظل يلاك على مدى سنوات بشكل معلن ويفترض أن كاشفاً يكشف كل الأسرار ولكنك لا تجد أسراراً تختلف عما هو متداول عن الصحوة وسيرتها وزعاماتها وقياداتها، ولن تجد ما يجعلك تقول إن السرورية شيء غير الصحوة لا بالمقولات ولا بالزعامات ولا بآليات الفعل ومناشطه. هنا تبخرت من بين يدي فرضية البحث تحت مسمى السرورية، وأنجزت كتابي عن الخطاب الديني دون مبحث عنها. هذا شرط منهجي في أن تسمي الناس بما يسمون به أنفسهم، ومعه أن يكون لهؤلاء الناس سمات ثقافية ومقولات نظرية تخصهم ويختلفون بها عن غيرهم، وهنا يأتي مأزقي المنهجي مع الليبراليين السعوديين. وأول ما يأتيك هو هذا السؤال: من الليبرالي؟ وهو سؤال يرتبط مباشرة بسؤال سابق عليه، وهو: ما الليبرالية؟ وفيما يخص السؤال الثاني فإنه سؤال عليه جواب ثري جداً، ولديك معه ثلاثة قرون من الثقافة الإنسانية فلسفياً وسياسياً واقتصادياً، وهو في الوقت ذاته مبحث ممتع وعميق خاصة مع جانبه الفلسفي، وفيما يخصني على المستوى الشخصي فإني أجد متعتي اليومية في هذه المنطقة، حيث أقف على لعبة المفاهيم والنظريات والقول نقيض القول، مع تفاعلات الإشكال العقلي والمعرفي، ولسوف يصحب تلك قرن كامل من الأدبيات العربية حول الليبرالية والحرية والموقف العربي منها في عصر النهضة كما عمت التسمية، مع ما عليها من إشكالات وأسئلة. إذا كنت على مشهد واضح وأكيد مع القرون الثلاثة العالمية نظرياً وحزبياً، وكنت أمام قرن كامل من الأدبيات العربية، فلا شك أنك حينئذ ستكون أمام معضل بحثي مربك فعلاً حينما تدير بصرك نحو قوم من قومك ولا تجد مادة يمكنك أن تضعها في سلة واحدة مع ذلك التراث العالمي حول الليبرالية، و ستكون المقارنة مخيبة لطموحك البحثي، وهذا محزن فعلاً. أما المحزن الآخر فهو ما حدث لي عملياً، وهو أنني كنت أخطط لعمل كتاب عن الوسطية والليبرالية، وكنت قد صرحت بذلك مراراً في الصحف، وكنت مخلصاً مع نفسي في تلك النية، تماماً مثل نيتي في البحث عن السرورية، وقد صار أن استبعدت السرورية من البحث حينما لم أجد شيئاً أبحثه. ولكن ماذا عن الليبرالية...!!؟ لقد فرح صديقي الأستاذ حسن ياغي وكنت في حديث معه في مقهى في بيروت قبل سنة وسألني ما الذي بين يدي من مشاريع بحثية، فقلت له في أوراقي كتاب عن (الرواية في مجتمع محافظ) وكتاب آخر عن (الوسطية والليبرالية)، وطرب كثيراً للأخير، وخاصة في مسألة الليبرالية ايت يشاركني الرأي في ضرورة تشريح هذه الدعوى عربياً وليس محلياً فحسب، ويبدو أن نفسه الناقدة والخبيرة قد رأت أن القضية تحتاج إلى عين ناقذة تقرأ عيوب الخطاب وتكشف عن نسقياته، وهي مهمة لا بد من التصدى لها. رحت أبحث، ولعل من سوء حظ بحثي هو أنني ابتدأت بالوسطية، ولما فرغت منها والتفت إلى الليبرالية وجمعت أوراقي صارت الصدمة. صارت الصدمة لأنني كنت مع الوسطية في بحر من الأوراق الشائكة والمتلابسة والمتقاطعة،أي أنها مادة نارية وعميقة وخطيرة ، وتتحدى أي باحث بحيث تشعرك أنك تستطيع امتحان أدواتك البحثية ونظرياتك في النسق والخطاب وتحديات البحث ووعثائه. وهذا أعطاني قدراً عالياً من الفضول العلمي وكأنك تتبارز مع فارس يمتحن كل قواك على المبارزة الميدانية، وفي هذا الخطاب مادة علمية عميقة تقوم على طبقات من فوق طبقات، والمسافة ما بين اللب والقشرة عميقة جداً وتسمح لك للغوص والبحث عن المضمر والنسقي والمعرفي من حيث ما هو اختلافي وتغييري وما هو تفعيل للمنشط الإنساني في مواجهة التحدي للفقيه من جهة ثم لك أنت كباحث من جهة أخرى. هذا بالضبط ما أحدث لي الصدمة حيث وجت نفسي في مأزق بحثي حينما التفت إلى أوراق الليبرالية، لقد وجدت الأمر بسيطاً جداً مقارنة بالخطاب الديني، لقد وجدت نفسي مع ثقافة صحفية وليست فلسفية ومع خطاب إنترنتي حتى وإن جاء على شكل مقالات مصححة ومنقحة، ولكنه يظل خطاباً إنترنتياً. لقد قررت حينها ترك الموضوع، غير أن اتصالاً جاءني من الصديق الدكتور عبدالعزيز الزهراني يذكرني بوعد قطعته على نفسي قبل سنة بأن أحاضر في برنامج (تواصل) في الجامعة، وكان من المفترض أن يتم قبل عام، وتأجل بسبب وفاة الحبيب محمد البنكي - رحمه الله -، وكان أمر المحاضرة الموعودة قد غاب عن ذاكرتي، ولقد خجلت من الاعتذار من بعد وعد، ولكنني خفت على نفسي ومن نفسي، خفت أن أتعالى على الموضوع وأن استصغره لأنني لما أزل مصدوماً من ضحالة القضية حتى صرت أشعر ألا قضية أمامي. لقد كنت أمني النفس بأن يتدخل متدخل في المؤسسة الرسمية فيصدر أمراً بإلغاء المحاضرة، وظلت تلك أمنيتي إلى آخر ساعة، وكنت سأفرح فعلاً لو جاء العذر من غيري، ولكن المحاضرة صارت. وكما في المثل: إذا أكلت بصلاً فأكثر، ولقد أكلت البصلة الليبرالية ويبدو أنني سأكمل بقية الحقل بصلاً وثوماً، وأعي تماماً أن الإشكال المنهجي سيظل يلاحق مقالاتي وسأجرب وضعي معه، ولأول مرة في حياتي البحثية أعمل على أمر موجود وغير موجود في آن واحد. هو موجود وهو غير موجود، وهذا في المعهود عندنا يكون مجازاً شعرياً، حيث يعم في الخطاب الشعري أن تقوم الاستعارة على الفرضيات البعيدة، وتزداد قيمتها الإبداعية كلما زادت درجة التغريب فيها وتحويل الحبة إلى قبة. سأحول الحبة إلى قبة، وسأقف على مفاتيح المجاز، وهذا تدريب ذهني على المنهجية من جهة وعلى قراءة رد الفعل من جهة أخرى وعلى امتحان الثقافة شريطة أن نظل نميز دوماً ما بين ما هو نقدي من حيث مفاهيمية النقد، وبين ما هو نسقي، أي أن نرى النقد فنعرف أنه نشاط معرفي له شروطه ولا نجنح إلى التصور السلبي الذي يصف العين الناقدة بأنها العين المارقة، وهنا لا بد أن نتوافق على معرفة الواقعة الاجتماعية التي ترى كل فعل نقدي على أنه انحياز من نوع ما وأنه تراجع عن موقف وتبن لموقف آخر فإذا نقدت الحداثة فأنت مع الرجعية، وإذا انتقدت الليبرالية فأنت محافظ أو قومي أو إسلامي، وكأنهم يقترحون عليك أن تسكت، أو يريدونك أن تقول ما يقوله جماعتك، وليس لك أن تستعمل عقلك النقدي، لأن العين الناقدة في هذا العرف هي العين المارقة. هذه خلاصة ثقافية نخرج بها من استعراض ما جرى في الأسابيع الماضية كرد فعل على محاضرتي عن الليبرالية، والخلاصة هي امتحان عملي لليبراليين (الليبراليين...!!!) يكشف أن مقولة (العين الناقدة هي العين المارقة) وهذه هي المعنى الجوهري الذي يشرح موقفهم وهو موقف يقوم عند مقام الكاشف النسقي ويطعيني مادة بحثية حيث نقرأ الناس من ردود فعلهم ومن سلوكهم مع المختلف والمخالف وكذا في موقفهم من النقد الموجه لخطابه، وسأستخدم هذه المادة في مقالاتي المتوالية بما إنها وثائق بحثية تساعد على قراءة سيرة النسق وتحليل لغته ونظام تفكيره. وفي المقالة القادمة تكملة لسؤال مَنْ الليبرالي - إن شاء الله.