بعد أن فرغت من قراءة خبر احتل مساحة كبيرة في الصفحة الأخيرة لعدد يوم الاثنين 21 المحرم من صحيفة الجزيرة، لا أدري لماذا خطرت ببالي حكايتان طريفتان، الأولى وصف كاريكاتوري نقل عن رجل أخبر أهل قريته عن مشاهدته شيئا وصفه بالغرابة، وشبهه بجمل ضخم بارك على الأرض وفي جنبيه أربع محاحيل كبار «المحّال أو المحّالة: أداة دائرية الشكل تصنع من خشب، تستخدم قديما مع أدوات أخرى لإخراج الماء من البئر» وأن السحرة إذا أرادوا ركوب هذا الكائن العجيب اشعلوا نارا في مؤخرته، فيطلق من جوفه صوتا أشد من هدير فحل الإبل الهائج ثم ينطلق يسابق الريح من دون أن تسمع صرير المحاحيل، فلا تدركه أقوى الخيول وأسرعها. هذا رجل كان يقيم في منطقة شهدت بدايات التنقيب عن المعادن إبان نشأة المملكة، وشاهد وهو في المرعى قبل عشرات السنين واحدا من المستكشفين يقود سيارة «دايموند تي» أو الدمنتي كما سمّاها أجدادنا فيما بعد، فعاد مسرعا إلى جماعته يصف لهم الحدث أو بالأحرى السيارة التي رأها أول مرة. أما الطرفة الأخرى فسمعتها قبل أعوام من امرأة مسنة أستضيفت في البرنامج الإذاعي سلامات، وروت بسخرية كيف أنها وبنات جيلها كن يهربن أيام الصبا تاركات الأغنام التي يرعينها تتشتت عندما يسمعن أزيز الطائرات معتقدات أن هؤلاء هم الفرنج تحملهم الشياطين أتوا للغزو وسبي النساء. قلت إن هاتين طرفتان، وربما تقول أنت - وفقا لمقاييسنا الآن - إن هذا تخريف، لكن الأمر ليس كذلك في «عصر الدمنتي» فلا نلومهم لأن هذا مبلغ علمهم. إذا لمثل هذا الرجل وتلك العجوز نتجاوز عن حشو الرواية بالتهويل و«فبركتها» بما لا تحتمله من التأويل والتشبيه. ما علينا، أعود للخبر الذي نقله مراسل الجزيرة في بريدة سليمان العجلان، ونشر تحت عنوان طائر محمل بأجهزة إسرائيلية يهبط بقرية الضحايا، وفي التفاصيل «هبط» طائر جارح ضخم الشكل والجسم في قرية الضحايا بالركن الغربي لمنطقة حائل وذلك عصر يوم الوقوف بعرفة! واقترب الطائر من «منطقة أثرية» من دون أن يهاب مجموعة من السكان حتى أمسك به أحدهم وقد وجد على جسمه حزاما ربط به جهاز له أريل، وجهاز آخر مزروع داخل جسمه، وجهاز ثالث إضافة إلى قطعة بلاستيك «استيكر» على جناحه وحجل من حديد ونحاس في ساقه كتب عليها رموز وكلمات منها «اسرائيل» تل أبيب. وثمة تفاصيل أخرى في الخبر مشحونة بخلفيات وبإيحاءات تجعلك تتصور قسرا أن هذا الطائر المدجج بكل هذه الأدوات كائن شبه آلي أرسله الأعداء، وربما تذهب - قبل أن تعود إلى رشدك - إلى أبعد من ذلك في التأويل بمسافات، وقد تجد أنك تحلل الخبر أو تفهمه بعقلية عصر الدمنتي وغزو الفرنج. من فوائد الانترنت أنك تستطيع الوصول سريعا إلى ردود أفعال عامة الناس. وضعت عنوان الخبر في محرك البحث قوقل متوقعا أن عددا محدودا من الصحف الالكترونية والمواقع والمنتديات تناقلت الخبر، كان هذا تقديري، المفاجأة أنني وجدت أكثر من خمسة عشر ألف نتيجة. أخذت جولة في بعضها، يا ساتر! تحوّل كثير من المتلقين إلى الحوقلة والاستعاذة متأثرين ب «التصور القسري» الذي مررته خلفيات الخبر بإيحائاتها وما بين سطورها، وتبنوه على أنه حقيقة، وحمّلوا الخبر ما لا يحتمل في الواقع، وتحدثوا بجدية عن العدو والتجسس والأهداف التوسعية والخطر القادم والأطماع التاريخية في كنوزنا الأثرية. بعض الوقائع - حتى لو كانت طريفة - تفرض سؤالا أو أسئلة هامة إذا أراد الصحفي طرحها كقصة إخبارية، ولا يكتمل الخبر إلا بالإجابة عنها خاصة إذا كانت ستشكل خلفية الخبر. ويخطئ الصحفي إذا رضخ لإغراء عنصر الإثارة وتجاهل الوقوف عند علامات استفهام بارزة. وفي هذا الخبر كانت الخلفية المقبولة هي هجرة الطيور التي تعد من الظواهر المحيرة للعلماء، ومن طرائق جمع المعلومات عن أنماط ومسارات الهجرة امساك عينات من أنواع محددة وتحجيلها، أي: تركيب حلقات معدنية أو بلاستيكية على أرجلها يكتب عليها الرقم والعنوان الخاص في البلد الذي تم فيه التحجيل، وإذا رصد أو مسك الطائر في أي بلد سجلت المعلومات عن حالته وأرسلت إلى الجهة التي أطلقته عبر منظمات محلية ودولية. وبغير التحجيل يتم رصد الطيور وتتبعها بواسطة وضع أجهزة صغيرة تعمل وفق نظام تحديد المواقع العالمي، ويمكن بذلك تحديد مسار هجرتها بالتقاط الإشارة الصادرة عن الجهاز. وهذه الطرائق معروفة ليس فقط عند المتخصصين والمتعاونين مع الجمعيات والهيئات الدولية التي تعنى بحماية الطيور، بل حتى لدى معشر الصيادين في كل دول العالم تقريبا، وأعرف في المملكة من الصيادين من يهوى جمع الحلقات المعدنية التي يجدونها في الطرائد، طبعا بعضهم لا يأبه بمسألة التعاون مع الهيئة السعودية لحماية الحياة الفطرية. أطرف ما نقل لي عن مسؤولين في محمية محازة الصيد في المملكة التي يوجد فيها طيور حبارى تتكاثر تحت الأسر، ويطلق منها مجموعات لتعيش في الطبيعة بعد أن يركب على أجسام بعضها أجهزة ترسل إشارة لاسلكية (انظرالصورة) يمكن تتبعها عن طريق أجهزة استقبال خاصة، ويحدث أن تتنقل الحبارى وتتسرب خارج اسوار المحمية. وفي أحد الأيام تتبع فريق من الباحثين حبارى بواسطة إشارة جهاز الإرسال المركب على ظهرها، وكانت الإشارة تشير إلى خارج المحمية على منزل مواطن بسيط «صقار» في قرية مجاورة. ولذلك طرقوا الباب وطلبوا منه تسليم الحبارى فأنكر بشدة، فعادوا فيما بعد للتتبع وأيضا كانت الإشارة تشير على نفس المنزل، فأضطر الباحثون إلى الاستعانة برجال الأمن، فأدخلهم الصقار وهو يؤكد «بثقة» على أنهم لن يجدوا عنده الحبارى، وبتتبع إشارة الجهاز وجدوه على رف دولاب غرفة النوم تحت الملابس، فاعترف أنه صاد الحبارى سابقا ووجد عليها الجهاز واحتفظ به للذكرى وهو لا يدري أنه جهاز يصدر إشارة لاسلكية يمكن تتبعها. أعود إلى الخبر مرة أخرى وتحديدا للصور المصاحبة، لأضيف هي لطائر كبير لكنه جبان أضعف من أن يفترس فأرا، فهو نوع من النسور يخشى الكائنات الحية لكنه مفيد لكونه يتغذى بالرمم فيخلص الطبيعة من هذه المخلفات، ويعد لدينا في المملكة واحدا من طيور (الرخم)، وإذا قيل في المثل الشعبي «فلان رخمة» فالمعنى أنه جبان وضعيف ورخو لا يحسن تدبير شؤونه، وأختم ببيتين للشاعر محمد الأحمد السديري: دنياك يا مخلوق يظهر بها أشكال توريك صفحات وتكشف لك الغيب إلى أن قال: ولا يغرك بالرخم كبر الازوال وكبر النسور المهدفات المحاديب