تطورت في العقود الثلاثة الأخيرة حالة المقاربة بين الشعر والنثر، وأخذت تقنية الكتابة في هذه المساحة تتألق عبر تجارب إبداعية عديدة وكان أبرز ما يميزها محاولة الشعر أخذ العبارة النثرية إلى واحات الإيقاع وأنفاس الصور التي تختزل اللحظة في كثافتها وتعبر فيها الأنفاس كطلقة أسطورية نحو كوني شاسع، وكذلك قيام النثر باسترخاء وتأمل بإلقاء أطراف الشعر على حوافه ليستريح قليلاً من رتابة بعض الإيقاعات التي تصنعها قافية تتكرر أو صورة تعيد إنتاج نفسها بأكثر من طريقة. ولم يكن الشعراء أو كتاب النثر متساوين في إحداث هذا التماهي بين نهرين لهما في أرض الحياة وأفلاكها جريان لا يتوقف وعذوبة لا تغري ملامحها تلك الحالات التي تتشابه في إدراكها الأرواح، فكان لكل مبدع صورته التي ينسج ملامحها ووعيه الذي يسكبه في قالب لم يتوقف كثيراً لاختياره ، تاركاً الوعي يتسرب عبره بنبض روحه بحرية تامة. ولعل العلاقة بين الشعر والنثر، وما نشأ بينهما من فوارق شكلية، تعبر عن سيرتها من خلال ما يحمله كلاهما من طبيعة وما يكنه للآخر من إحساس بقيمته وبصلة القرابة الإبداعية التي تربطهما، بدءاً من تلك الحكم والأمثال التي علقت الرؤوس في فضاء حكمة اختصرت مواقف الحياة ومواقدها وانتهاءاً بحالة التجريب في المزج بين شكلين عريقين لهما نفس الروح، سواء في تجارب الكتابة الشعرية في قصيدة النثر وما رافقها من تجارب ألغت تلك الفوارق وقاربت بين عبارات الشعر وإيقاعاته وفواصله وصوره وعبارات النثر وأنماطه، أو في نماذج الكتابة الروائية والقصصية الجديدة التي غلفتهما بنسيج التوحد والتقارب لينمو كل منهما على أنفاس الآخر! ومن أجمل ما أضاء حالة هذا العناق الأنيق بين الشعر والنثر ما كتبه الناقد الدكتور عبدالعزيز المقالح حول تجربة حبيب الصائغ الإبداعية وقدرته على إحداث هذا التقارب الفني بينهما، قوله: "ولكي لا أذهب بالقارئ بعيداً، أدعوه ليرافقني إلى قراءة النماذج المختزلة للصائغ والمصفّاة من شعر هو الشعر، ومن نثر هو الشعر، التقطتها عشوائياً، فمنها ما يدهش القارئ ويجمعه بالشعر في أبهى تجلياته اللغوية والفنية، حين يحدثك تارة عن ظلك وقلبك، وتارة عن مشارف الذهول، ولؤلؤ الهذيان ونجمة العنكبوت، وتارة عن حواس بلا حدود ولا جدران تقف حائلاً دونما ينشِّط المخيلة وعما لا يخطر على بالك من موضوعات تبدأ نثراً ثم يحملها الشعر إلى البعيد! ولو أعدنا قراءة التجارب الجديدة للشعراء المجددين وكتاب النثر المجددين، أيضا، لأدركنا تقلص تلك المساحة التي كانت تفصل بينهما وتألق الصورة التي تشكلت بسبب هذا التقارب الإرادي واللاإرادي الجميل!! عبق أخير: الصحْ.. هوَ الخطأ لا شحّْ!!