المتتبع للإبداع الشعري في العقود الثلاثة الأخيرة يلمس بوضوح طغيان الحضور الفيروزي في القصيدة المعاصرة سواء على مستوى الفصيح أو المحكي منها ، وإن كانت في القصيدة الفصحى أكثر حضورا وأشدّ تأثّرا ، وأوسع رؤيا ، وأعمق تواشجًا ، ولا أعرف إن كان هناك ماهو أكثر من الإشارات العابرة لهذه العلاقة النفسية الخاصة بين فيروز والقصيدة المعاصرة في أشد حالاتها تماهيا مع الوجود الإنساني ، من حيث مسوّغاتها وأبعادها الفنية أو حتى اختيارها وحدها من بين كل المغنين لتكون خلفية الشجن المطلّة دائما على صباحات المدينة الحالمة ، كذلك لاأعرف سر العلاقة الوثيقة بين فيروز والصباحات عند كثير من المفتونين بها ، وهو مبحث ربما عدتُ إليه لاحقًا ... أعود إلى العلاقة بين فيروز والحضور الشعري المعاصر ، فأشير إلى أن خصوصية الصوت الفيروزي والمميز جدا عن بقية الفنانين السابقين واللاحقين منهم بكل مافيه من تأويل رؤيوي قادرٍ دائما على أن ينشر الدفء في معاطف البرد ، يظل دائما أحد دواعي القصيدة ، وبالتالي يتسرّب أحيانا في اللاوعي أثناء تمثل حالات الشجن الشعري ، فضلا عن نخبويتها الغنائية على مستوى اللحن والكلمة معا ... ففيروز التي اختطّ الملحّنون من خلال صوتها تجريبهم وتغريبهم ومحاولاتهم الدائمة في اختراق النمطي والسائد من الألحان الشرقية ، انتقت دائما من قصائد الشعراء نخبويتهم ليس على مستوى القصائد الفصحى كمواكب جبران أو الموشحات الأندلسية أو غيرها من القصائد ذات الأبعاد النفسية المؤثرة ، بل حتى على مستوى المحكي ، والمتأمّل مثلا لأغنياتها الأشهر على مدى تاريخها يلمس بوضوح تلك الكلمة السهلة الممتنعة والنخبوية في رؤياها ، وحسبنا مثلا أغنيتها الوطنية الشهيرة ( سوارة العروس ) وهي من كلمات جوزيف حرب والتي جاء فيها ) لما بغنّي اسمك بشوف صوت غِلِي ايدي صارت غيمة وجبيني عِلِي الشمس بتطلع سودا وبيبس الموج إذا بفكّر إنه ترابك مش إلي ) وغيرها من أغانيها الذائعة الصيت ، مثل ( عتم الليل ، أسامينا ، أنا عندي حنين، الخ ) وفي المقابل استطاعت فيروز أن تمنح الملحّنين بتوجهاتهم المختلفة مساحة شاسعة للتجريب والجنون أحيانا عبر صوتها الممتدّ من أول الحنين حتى آخر الشجن ، فضلا عن خصوصيته وتفرّده النادر على مدى عصور الغناء العربي ، فالصوت الفيروزي لايكاد يتقاطع أو يتشابه مع أي من الفنانين في كل عصور الغناء العربي ، ومن المستحيل أن تخطئ الأذن فيه يوما وهو مالم يتوافر لغيرها من الفنانين ، إضافة إلى قدرة هذا الصوت على استيعاب جميع أشكال التفرّد والتغريب في اللحن ، وهو ما أدركه الرحابنة وأسسوا من خلاله مشروعهم الموسيقي المختلف والمنعزل عن سياق الأغنية العربية في زمن الطرب الجميل .. وفي الوقت الذي استعاد فيه بعض الفنانين المعاصرين كثيرا من الأغاني الخالدة عبر إعادة تسجيلها بأدوات حديثة تبعا لما توصّلت إليه تقنيات الصوت في العصر الحديث ، نجد تهيّبا كبيرًا من المساس بخصوصية الأغنيات الفيروزية إلا القليل منها ، وجاء دائما باهتا وعاجزا عن الوصول بنا إلى المراتب الفيروزية التي أخذت إليها الشعراء دائمًا في أشد حالاتهم شجنا ...