يبدو أن التفاؤل الذي صاحب دخول عصر الفضائيات تبدد؛ القنوات الخاصة التي جاءت بديلة عن سيطرة الإعلام الحكومي، أصبح كثيرٌ منها "نقمة" على المشاهد العربي، ولكأن المرء، يكاد يترحم على زمن المحطات الأرضية، رغم احتكار الدول، آنذاك، للمؤسسات التلفزيونية وما يتبعه من احتكار للخبر والمعلومة المرئية. فما وصلت له الأحداث ينبئ بما هو أسوأ، مما جرى في الكويت، عندما اقتحم غاضبون استديو قناة (سكوب) على خلفية إذاعة برنامج تحوّل إلى موقع لتصفية حسابات سياسية وشخصية بين مقدم البرنامج (طلال السعيد) وأطراف أخرى في الحكومة الكويتية؛ في محاولة لإيقاظ العصبية القبلية والعائلية والتي بلا شك تهدد وئام وتعايش أبناء هذا البلد الخليجي الشقيق. قنوات الفتنة الدينية أما القنوات الدينية والتي أوقفت بالجملة، بعد قرار إدارة نايل سات الشجاع، منتصف الأسبوع الماضي، فتحولت إلى بؤر للفتنة، ونفث التطرف والطائفية بين الشعوب العربية التي يحتفظ لها التاريخ العالمي بفرادة التعايش السلمي بين الأفراد والجماعات رغم تباين الانتماءات الدينية والمذهبية والإثنية. ومن المؤسف أن تنطلي كثير من الألاعيب الباطلة على جمهور كبير من المتلقين العرب، فهذه القنوات رغم ما ترفع من شعارات الدفاع عن الدين أو المذهب إلا أنها في الداخل ليست إلا دكاكين للمتاجرة بالدين باسم حماية "المقدس"، فهي تستغل بطريقة غريزية عاطفة كثير من الشعوب المغلوب على أمرها والمطحونة تحت عجلات الفقر والبطالة، لتشغل المجتمعات عن الانخراط في مشاريع التنمية والبناء التي تحتاج إلى التعاون والتكاتف النابع بين ذوات الأفراد وليس تحت إملاء أي جهة كانت. مستغلة – القنوات المذهبية - وعي ووقت وجهد ومال الإنسان الخليجي والعربي لتحوله إلى بيدق يتحرك في معركة التراث "الماضوية" ولكن هذه المرة ضد أخيه الإنسان، رغم ما يهدد الدول العربية من أطماع إقليمية ودولية. الغرب تحوّل من الإعلام الليبرالي إلى الإعلام المسؤول دكاكين.. فضائية! وأكثر مثال على فضح "دكاكينية" القنوات الدينية هو في تلك التداعيات التي لحقت إغلاق "12" قناة دينية، حيث هب مدراء هذه المحطات إلى الاستنجاد بكبار أصحاب رؤوس المال في المذهب هذا أو ذاك، نصرة ضد المذهب الآخر، بل هنالك من حوّل قناته إلى مشروع "تسوّل" جماهيري، داعياً المشاهدين عبر المنتديات والمجالس إلى التبرع لتجنب إيقاف المحطة. ولا يخفى على كثيرين أن هذه المحطات في خطابها لا تعرف إلا الرأي والفكر "الأوحد"، بل وتنتهك صراحة أخلاقيات المهنة الصحفية، ليس من خلال معجم الشتائم والتنابز الذي يستخدمون وإنما أيضاً من خلال استغلال مسميات دينية تتحول إلى غطاء لمشروع فئوي شخصي و"عائلي" في أحسن أحواله! (عائلة رجل الدين صاحب المحطة). هذه القنوات من خلال ما تبثه من مواد تحريضية يتضح أنها لا تدرك أبداً حساسية وأهمية القضية الوطنية ومسألة التعايش بين أبناء البلد الواحد وسط ما يهدد الأقطار العربية من أخطار. بل إن كثيراً من هذه القنوات يستغل موروث الطب النبوي للترويج لبيع الأعشاب بشكل عشوائي ومضر إلى جانب تفسير الأحلام بطريقة سطحية خرافية جوفاء، أضف إلى ذلك فتاوى الرسائل القصيرة؛ إلى ما هنالك من طرق جني المال تحت شعار الحفاظ على الدين!. ومن صور استغلال هذه القنوات لعامة المشاهدين "المؤمنين"؛ يكون من خلال تصوير مقدمي البرامج والضيوف لأنفسهم على أنهم يخوضون حرباً شعواء لحماية هذا المذهب أو ذاك، وأن كل "دولار" يُدفع للقناة هو في صالح "القضية" وبالتالي يتوجب على جميع "القاعدين" في منازلهم أن يدفعوا لأولئك الجنود الإعلاميين المجندين في صفوف القتال الأولى، وهكذا، يشارك البسطاء، باسم جني الثواب الإلهي، في هذه القنوات وتحدث كل هذه الأمور تحت استغلال فاضح للمقدس الديني. أما عن مصير هذه الأموال، فلا أحد سمع أن هذه القناة بنت مدرسة أو وحدة صحية، وإنما ازداد مدراء هذه القنوات الدينية ثراءً ودون شك من خلال ما يدفعه المشاهدون باتصالاتهم ورسائلهم إلى آخر وسائل ملء الجيوب بالمال "الحلال"!. وثيقة "تنظيم البث الفضائي" ولا نزال نتذكر اجتماع وزراء الإعلام العرب في فبراير 2008 عندما صدرت وثيقة مبادئ تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتليفزيوني في المنطقة العربية؛ والتي جوبهت برفض كبير على مستوى النخبة المثقفة والصحافة، حماية لمبدأ حرية الرأي، في حين أن بنود هذه الوثيقة كانت موجهة في الأساس لحالة الفوضى الفضائية المدمرة والمصوّبة ضد وعي الإنسان العربي. وكانت الوثيقة قد دعت إلى عدم التأثير سلبياً على السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العام والآداب العامة، مطالبة بالتقيّد بضوابط ونصوص ميثاق الشرف الإعلامي العربي، دون التخلي عن الالتزام بمبدأ حرية التعبير بوصفها ركيزة من ركائز العمل الإعلامي. مشددة على الامتناع عن التحريض على الكراهية أو التمييز القائم على أساس الأصل العرقي أو اللون أو الجنس أو الدين. المسؤولية الاجتماعية لا شك أن مبدأ حرية التعبير، حق لا جدال فيه بموجب الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، ولكن حتى أكبر الحضارات والأمم، تجربةً في الحقل الإعلامي تداركت الأمر، متحوّلة من ما يسمى "النظرية الليبرالية في الإعلام" إلى نظرية "المسؤولية الاجتماعية"؛ أي التمسك بحرية التدفق الإعلامي ولكن مع التقيد بالتزامات ومسؤوليات أخلاقية تجاه المجتمع، معتمدين بُعيد الحرب العالمية الثانية، توصيات لجنة هوتشنز تحت شعار "إعلام حر ومسؤول". لتتطور فيما بعد نظرية المسؤولية الاجتماعية ليس من خلال البحوث وحسب، وإنما عبر صرامة التشريعات الإعلامية الجادة والمجرّمة لكل تجاوز يمس المجتمع وأمنه وسلامة الأفراد فيه؛ من هنا قرأنا حول قانون أمريكي يجرم استغلال الطفولة في إعلانات الحلويات للأطفال بسبب تأثيرها السلبي على الأسنان وهكذا.. الحل في التجريم! أما في الحالة العربية لمجتمعات، لا يجد الإعلام فيها موازياً ورقيباً ديمقراطياً أو تشريعياً فإن المسألة ستتجه لا محالة إلى الفوضى وبالتالي يجب على الدول أن تتدخل من خلال دعم البحث العالمي في مجالات البحوث الإعلامية وخاصة لتلك القنوات الهامشية والمؤثرة على وعي المجتمعات، وأيضاً من خلال التزام هذه الدول بمسؤولية وطنية تمنع وتجرم افتتاح قنوات أو مكاتب تبث روح الفتنة من على أرضايها، بل وتلاحق قنوات الغش والخرافة الدينية، قضائياً؛ وأن أي تهاون مع هذه المسألة من قبل الدول العربية، سوف يبدد المساعي والجهود المبذولة في مجالات كالتعليم والصحة والبناء الحضاري، لأن هذه القنوات تتحرك في اتجاه معاكس يهدم كل ما بنته وتسعى لبنائه الدول العربية المعاصرة.