لا مراء بأننا نواجه مشكلة ربما هي في طريقها إلى أن تصبح ظاهرة تصعب السيطرة عليها، تلكم هي مشكلة تعثر المشاريع الحكومية عامة، ومشاريع البنية التحتية منها بشكل خاص. وإذا كانت تلك المشكلة لا تُعزى بطبيعتها شأنها شأن كل المشاكل ذات الطابع الاجتماعي التي يتعدى مفعولها إلى المجتمع ككل إلى عامل واحد، إلا أن آلية حلها،أو التخفيف من حدتها على الأقل، تتطلب من الباحث التركيز على عامل/عوامل معينة يرى أنها أبرز ما يقف خلف المشكلة في السياق الزمني، وربما المكاني لبحثها. بادئ ذي بدء، لا بد من تحديد الأطراف التي تتوزع فيما بينها مسؤولية تنفيذ المشاريع الحكومية، وهذه الأطراف هي كالتالي: الجهة صاحبة المشروع كممثل للدولة، والمقاول المنفذ، والقوانين والأنظمة ولوائحها التنفيذية، والتي تحكم العلاقة القانونية بكافة أبعادها بين أطراف العملية من بدايتها حتى نهايتها. وهذه الأطراف مثلما هي تشترك في مسؤولية تنفيذ المشاريع، فهي تتنازع المسؤولية أيضاً عن أسباب تعثرها، على اختلاف الحمل الذي يضطلع به كل منها. مع ذلك، فإننا نلحظ أن التركيز في النقد من جانب من يتناولون بحث أسباب تعثر المشاريع الحكومية، يكاد ينصب على طرفين من أطراف العملية، هما: المقاولون من جهة، ومنظومة القوانين التي تنظم الإطار القانوني للتنفيذ من جهة أخرى، باعتبار أنهما دون غيرهما مسؤولان عن التعثر. وإن قاربوا الجهات صاحبة المشاريع بالنقد، فإن مقاربتهم لها لا تتعدى في الغالب نقد ما يرونه تقصيراً من تلك الجهات في متابعة تنفيذ مشاريعها على الطبيعة لرصد أي انحراف عن الخطط الموضوعة، بما فيه عدم القدرة على تسليم المشاريع في وقتها المحدد. لكنهم، في غالب ما اطلعت عليه من مقالات وبحوث في هذا المجال، يهملون الدور السلبي لبعض الجهات الحكومية التمثل بعدم استصحاب مؤشرات التعثر التي قد تكون بادية لها أثناء الخطوات الأولية التي تسبق ترسية المشروع. وهي خطوات تستطيع، إذا ما أحسن توظيف النواحي الإيجابية فيها، أن تساعد على اختيار المقاول المؤهل الذي سيتولى عملية التنفيذ بنجاح. قبل مناقشة دور الجهات الحكومية في تعثر المشاريع المطروحة من قبلها، يجدر بنا، كحالة عامة، أن نحدد المضمون القانوني لمفردة "التعثر"، لأن عدم تحديدها بشكل منطقي متماسك سيصعب من إمكانية اقتراح حلول لها، إذ إن المشكلة القابلة للحل هي تلك المشكلة المُعرَّفة والمحددة تحديداً مانعاً جامعا. في تقديري أن المقصود ب"تعثر" المشاريع، يجد معناه القانوني فيما حددته المادة الثالثة والعشرون من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية من حالات يجوز للجهة المتعاقدة إذا توفرت كلها أو بعضها سحب المشروع من المتعاقد، وخاصة منها تلك الحالات التي شملتها الفقرة (ب) من تلك المادة، وهي حالات "تأخر المقاول عن البدء في العمل، أو تباطؤه في تنفيذه، أو إخلاله بأي شرط من شروط العقد"، كأوضاع عملية تشير إلى تعثر مراحل التنفيذ. كما يجد معناه أيضاً فيما حددته الفقرتان: (أ،ب) من المادة الثالثة والخمسين من عقد الأشغال العامة اللتين أجازتا للجهة الحكومية سحب العمل من المقاول "إذا أوقف العمل كليا لدرجة يري معها صاحب العمل أنه لا يمكن معه إتمام العمل في المدة المحددة لإنهائه. وكذلك إذا انسحب المقاول من العمل أو تخلى عنه أو تركه..". فهذه الحالات التي يجوز للجهة سحب العمل من المتعهد إذا توفرت أو أحدها، تشكل في تقديري معايير معتبرة، يمكن أن نطلق على المشروع الذي يعاني من حالة من تلك الحالات، أو من بعضها وصف "مشروع متعثر". ها نحن بعد أن وصفنا المقصود ب"تعثر" المشاريع، ننطلق إلى الحديث عن عنصر رئيسي في مسؤولية الجهات الحكومية تجاه تعثر بعض مشاريعها. يتعلق الأمر بعدم تفعيل الجوانب الإيجابية التي اشتمل عليها نظام المنافسات والمشتريات الحكومية الجديد ولائحته التنفيذية، واللذان توجه إليهما عادة سهام النقد فيما يتعلق بتفسير نشوء واستمرار أسباب تعثر تلك المشاريع. من تلك الجوانب الإيجابية التي حفل بها نظام المنافسات والمشتريات الحكومية الجديد، والذي صدر عام 1427ه، والتي لم تنل حظها من التفعيل الكافي بعدُ، ما يتعلق بمحاولة المُشرع تفادي تركز المشاريع بيد مقاول واحد، أو بضعة مقاولين محدودين، الأمر الذي سيؤدي ،غالباً، إلى بطء تنفيذها أو توقفه كلية نتيجة قصور إمكانياتهم المادية والفنية بالمقارنة مع مجموع تكاليف المشاريع الراسية عليهم. فقد نصت المادة الثالثة والعشرون من ذلك النظام على حق لجان فحص العروض بالجهات الحكومية بالتوصية باستبعاد "أي عرض من العروض من المنافسة حتى لو كان أقل العروض سعراً، إذا تبين أن لدى صاحب العرض عدداً من المشاريع، ورأت اللجنة أن حجم التزاماته التعاقدية قد أصبح مرتفعاً على نحو يفوق قدراته المالية أو الفنية بما يؤثر على تنفيذه لالتزاماته التعاقدية". كما احتوت المادة الثامنة والثلاثون من اللائحة على عدد من الضوابط التي تساعد على تطبيق هذا الإجراء. وعلى الرغم من هذا المسلك التطويري لنظام المنافسات والمشتريات الجديد، إلا أن الواقع الفعلي لبيئة المشاريع الحكومية يشير إلى أن ثمة تمسكاً سلفياً من قبل الجهات الحكومية بآلية الترسية على المتنافس صاحب العرض الأقل متى ما كان عرضه ملتزماً بالشروط والمواصفات ومكتمل المستندات الورقية، والذي كان نقطة ضعف بارزة في النظام السابق!. النماذج العملية للمشاريع التي تعاني تعثراً واضحاً نتيجة لعدم تفعيل مضمون تلك المادة وضوابطها اللائحية ماثلة للعيان في أكثر من مدينة ومحافظة. آخر تلك النماذج ما جاء في تقرير نشرته هذه الجريدة (= جريدة الرياض) في الثامن من الشهر الحالي، من أن وزارة التربية والتعليم تعض أصابع الندم على تورطها في ترسية مائتي مبنى تعليمي على إحدى الشركات الصينية بتكلفة بلغت ملياري ريال، وبمدة تنفيذ قدرها أربعة عشر شهرا، بعد تباطؤ الشركة في تنفيذ تلك المباني إلى الحد الذي لن تتمكن معه من تسليم تلك المباني في وقتها المحدد لها، كما جاء في ثنايا التقرير. وإذا كان التقرير المذكور ربما غمز من قناة سلبيات الاستثمار الأجنبي، فإني من جهتي أغمز من قناة عدم تفعيل مضمون تلك المادة وضوابطها في اللائحة، كما أشرت قبل قليل. فمثل هذا التعثر الذي يرجع في الغالب إلى عدم تناسب ضخامة تكاليف العمليات الراسية على مقاول واحد أو عدد محدود من المقاولين مع إمكانياتهم المالية والفنية، ليس مقصوراً على الشركات الأجنبية وحدها، بل إنه يفوق في حالة المقاولين السعوديين ما لدى المقاولين الأجانب، ربما بدرجة كبيرة!. كما أشرت آنفا، هناك عدة معايير، أو ضوابط حددها كل من نظام المنافسات ولائحته التنفيذية، تستطيع الجهات الحكومية بمراعاتها تحديد ما إذا كان المقاول المتقدم للمنافسة مؤهلاً لتنفيذ المشروع المطروح من قبلها أو غير مؤهل، ومن ثم يكون من السهل عليها اتخاذ القرار المناسب حيال ترسية المشروع عليه من عدمه. من تلك المعايير ما يلي: 1 ارتفاع حجم الالتزامات التعاقدية على نحو يفوق قدرات المقاول المالية أو الفنية، ويمكن للجهة الجهة الحكومية إعمال هذا المعيار من خلال الاطلاع على الخبرة الفنية لصاحب العرض، والأعمال المماثلة التي قام بتنفيذها. وكذلك الاطلاع على المركز المالي لصاحب العرض للتأكد من مقدرته وإمكاناته المالية. 2 التأكد من حجم التزامات صاحب العرض من الناحية المالية، ويمكن إعمال هذا المعيار بالاطلاع على تكاليف العقود الحالية التي يقوم المقاول بتنفيذها لصالح الجهة، مضافاً إليها تكاليف ما سيُرسى عليه من عقود جديدة، أو على تلك العقود التي يقوم بتنفيذها لدى غيرها من الجهات الأخرى، ومستوى تنفيذها، وما إذا كان بإمكانه تنفيذ المشروع محل المنافسة إلى جانب تلك العقود القائمة. بالإضافة إلى تلك المعايير، فهناك معيار آخر سبق وأن طالبت بأخذه بعين الاعتبار لأهميته من ناحية تحجيم الفارق بين حجم العقود التي يلتزم بها المقاولون من ناحية، وإمكانياتهم، المالية منها بالذات، من جهة أخرى. بالإضافة إلى أنني أعتبر غيابه، أعني ذلك المعيار، يشكل نقطة ضعف بارزة في نظام تصنيف المقاولين. هذا المعيار هو مقارنة إجمالي تكلفة العقود التي يقوم المقاول بتنفيذها بالفعل، إضافة إلى إجمالي تكلفة المشاريع الجديدة التي هي تحت الترسية، لدى الجهة صاحبة المشروع على الأقل، بالحد المالي الأعلى لدرجة تصنيفه، فإذا تعدى إجمالي مجموع تكاليف تلك المشاريع الحد الأعلى للدرجة المالية لتصنيفه، على الأقل في مجال النشاط موضوع البحث ،أو على الأقل، هناك فارق كبير بينهما، فهذا مؤشر على تجاوز حجم التزاماته التعاقدية لإمكانياته المالية على الأقل. إننا نلحظ أن التركيز في النقد من جانب من يتناولون بحث أسباب تعثر المشاريع الحكومية، يكاد ينصب على طرفين من أطراف العملية، هما: المقاولون من جهة، ومنظومة القوانين التي تنظم الإطار القانوني للتنفيذ من جهة أخرى، باعتبار أنهما دون غيرهما مسؤولان عن التعثر. لا أماري في مسألة قصور إمكانيات كثير من المقاولين المتعاقد معهم لتنفيذ المشاريع الحكومية، كما لا أنفي وجود سلبيات كثيرة في منظومة القوانين التي تنظم العلاقة بينهم وبين الجهات الحكومية التي تطرح مشاريعها للمنافسة، لكني في الوقت نفسه لا أجد مفراً من تحميل الجهات الحكومية كفلاً غير قليل من أسباب تعثر مشاريعها، خاصة مع تضمين نظام المنافسات الجديد ما يعطي الجهة الحق في اختيار متعاقد مؤهل لتنفيذ مشاريعها بدون الالتزام بآلية الترسية على صاحب العرض الذي تقدم بأقل الأسعار، وهي الآلية التي كانت تؤخذ على نظام المنافسات السابق.