في المقالة السالفة تمت الإشارة إلى ما يكمن خلف تجربة الثبيتي الشعرية من استعداد ، يكتشف من خلال تأمل شعره ، وكانت الإشارة إلى عمق الطاقة التخيلية واتساعها ، وسنشير هذا اليوم إلى مظهرين آخرين من مظاهر هذه الطاقة هما :( تجدد الطاقة التمرد على اللحظة ) . تجدد الطاقة : الطاقة الشعرية عند محمد الثبيتي لا تعرف الاستقرار فهي ضوء كاشف ممعن في الإضاءة ، وكشف المسارب ، وتفتيق الرؤى،فحين يقول : غدا .. يهطل الضوء تهمي لياليك يا أنت يا كروان الشواطئ يا وهج الحلم العبقري غدا يتوشح ليلك بالياسمين وتنمو على شالك البدوي حقول العنب هذا النص الذي جاء في فترة مبكرة من تجربة الثبيتي الشعرية ، في نص (شهر زاد وتفاصيل الحلم ) ، تجد لحظة الاستشراف التي يحيل إليها النص ، الذي لا يتوقف عند اللحظة ، مما يجعل تعلق نص الثبيتي بالآتي ، والمستقبل . وحين نقرأ في نص ( تهجيت حلما تهجيت وهما ) : الطبول..الطبول رقصة تنتشي في حدائي،طريق المجرة يبدأ من داخلي فامتزجت مع الرمل .. صرت بذورا وصرت جذورا وصرت بخورا نفذت إلى رئة اليم ...طافت برأسي الخيول الأصيلة نجد أن تجربة الامتزاج مع الرمل ولدت صيرورة جديدة ، لم تستقر على احتمال واحد ، فأصبحت تمثل في ( البذور ، الجذور ، البخور ) ، ليكون الاستيقاظ على عالم اليم ، الذي يوحي بالتجاوز ، والخيول الأصيلة التي توحي بالأمجاد والانتصارات ولذلك فهو يولد من التجربة أخرى ، وحين نأتي إلى لفظة الطبول المكررة ، نجد أن اللفظة يتولد منها ما تنداح به التجربة ،ولذا ينشأ من عالم اللفظة عالم آخر.. وهذا يشير إلى أن مساحة التخيل الشعري تظل مفتوحة عند الثبيتي ؛ فالطاقة الشعرية عنده لا تقنع بما اقتنصت ؛ إذ يظل هذا المقتنص لديه يولد مقتنصات أخرى ، ومشتغلات أخرى من هذا الذي أصبح شعريا في نص فإذا به يولد نصا آخر .. وهذا الأمر يحمل وجها آخر فهو يبين أن مايقع عليه الثبيتي في مقتنصاته يحمل طاقة شعرية كامنة تظل تتوالد من هذا الكنز الشعري . التمرد على اللحظة محمد الثبيتي لا تأسره اللحظة ، فلم يستوقفه شعريا جمال الفاتنات ، ولا دهشة الطبيعة ،ولا تبجيل الشخصيات ، وإنما تجد شعره مزيجا كونيا يمزج الرمل بالنبوءة ، وضوء التاريخ بقتامة الحاضر ، وفتنة الجسد بضوء الاستشراف ، فكل الشعراء يتشوقون للقاء المحبوبة ، ولكن لقاء الثبيتي بالمحبوبة يتسق مع رؤياه الشعرية التي تمزج العادي بالعميق ، والعابر بالكوني ، فهو يقول لمحبوبته : أجئ إليك مع الغيث أهمي وأبذر بين جراحك اسمي أشق إليك هموم الحصاد فإذا كانت مدونة الشعر العربي ، وخاصة التجربة الرومانسية التي كانت أصداؤها تتردد قبل تجربة جيل الثبيتي الشعرية ،تجد مساحة البوح الشعري في القلق والاشتياق إلى عالم المرأة ، والظفر باللقاء... فإن هذا اللقاء عند الثبيتي لا تأسره دواعيه ، ولا تحده مساحة الهروب التي يجد بديلها عند المرأة ؛ إذ يؤول ذلك الاشتياق إلى عالم من الفيوض والتجليات ، تمزج اللقاء بمفردات كونية متسعة ...فالحظ الغيث ، والحظ الرحم الذي يحتضن الاسم ، والحظ الحصاد ؛ لتشعر أن اللقاء عالم كوني ، وليس لقاء عشق ، ومراودة لحظة عابرة؛ ولهذا اتسق قوله هذا مع قوله عنها : عرفت بأنك حالمة تعشقين الوعود عرفت بأنك عاصفة تخزنين الرعود عرفت بأن الصحاري تخبئ في شفتيك اللظى والرحيق ليتجلى في هذا اللقاء العواصف والرعود والصحاري ، فتخرج في لحظة الوصل إلى لحظة امتزاج كوني مع الوجود . ولا شك أن مثل ما عرضنا له في هذه الطاقة والاستعداد جعل لتجربة سيد البيد ميدانا شعريا مختلفا ، أدهش متلقيه ؛ بل أدهش محمد الثبيتي نفسه ، في تلك المساحة التي استقبل بها نصه ، وفي تلك التأويلات التي منحت التجربة أبعادا لم تكن تتأتى لولا ما لمسه من تحرك بها وحركها في نصه المخبوء بالطاقة ، القادر على التوليد المتجدد المستمر . .وذلك أننا لمسنا منه في بعض المناسبات التي يتحدث فيها عن تجربته الشعرية وهي قليلة دهشته بل غضبه أحيانا مما ترامت إليه دلالات نصه .