الغرب لا يفكر فينا ، وليس معنياً بنا بالمستوى الذي نتخيله . بل الغرب أحيانا ، وفي معظم شرائحه ، لا يعرف بوجودنا على ظهر هذا الكوكب ، وإن عرف عرف بالشكل المجمل ؛ لأن تأثيرنا وحضورنا في العالم شبه معدوم . لا ينكر أحد أن أية رؤية لابد أن تكون ذات علاقة بإيديولوجيا ما . لكن ، يبقى أن هناك فرقاً بين أن تكون هذه الإيديولوجيا خاصة وضيقة ومفارقة للوعي الإنساني العام ، وأن تكون عكس ذلك . كما أن هناك فرقاً في (طبيعة) و(درجة) علاقة الرؤية بالإيديولوجيا : هل هي إيديولوجيا تلغي كل حقائق الواقع لصالحها ؛ ومن ثم تطرح رؤية مزيفة بالكامل ، رؤية تقلب الحقيقة في الاتجاه المعاكس (كما هي الحال في إيديولوجيا التقليديين لدينا) ، أم هي إيديولوجيا عامة وفضفاضة (كبقية الرؤى الحضارية العامة التي لا تتنكر لخلفياتها الإيديولوجية ، ولكنها تحترم حقائق الواقع ولا تُعاندها) ؛ بحيث تكتفي بتلوين هذا الواقع ؛ مع إبقائها على الخطوط الرئيسية للحقيقة ماثلة للعيان ؟! عندما طرحتُ في المقال السابق (رؤية واقعية) للغرب ، رؤية متحررة من الإيديولوجيا (أقصد النوع الأول : الإيديولوجيا الضيقة المُهيمنة المُزَيِّفة للواقع) ، كنت أريد أن أرى رد الفعل تجاه تلك الرؤية ، رد الفعل الذي سيعكس إلى أي مدى نحن نحترم الحقائق الواقعية ، ونراها كما هي ، وليس كما تعكسها لنا حالة الهذيان الإيديولوجي . ولهذا ، تعمدت أن أطرح بعض الحقائق العامة الواقعية التي يستطيع أي أحد تأملها ومحاكمتها (في حال تحرر ولو جزئيا من ثقافة الردح الشعاراتي) ، وأرجأتُ الرؤى الخاصة التي بنيتها على ما رأيته / سمعته بنفسي إلى هذا المقال . للأسف ، وكما توقعت ، فقد كانت ردود الفعل ، تجاه الحقائق العامة التي طرحتها ، متشنجة ، بل وعدوانية ، ترفض حقائق الواقع ؛ رغم وضوحها كوقائع عينية ، وتكتفي بأن تكرر نفس الشعارات العاطفية ؛ كما هي رائجة عند القوميين والإسلامويين الذين لا يتقنون حتى فن صياغة الشعارات الكاذبة التي يخدعون بها مغفلي الجماهير . ورغم أنني توقعت حجم استشراء التزييف الإيديولوجي ، إلا أن معاينة هذه الحقيقة على نحو مباشر ؛ جعلتني أغص بألم ممض يشبه ألم اليائسين . إن عدم الوعي بحقيقة الغرب ، كما عكسته ردود الفعل المتشنجة تجاه حقائق الواقع الصلبة ، كشف لي عن حجم الأزمة ، وأن حجم تخلفنا هو الذي يعكس حجم عدائنا للغرب . كما أن العكس صحيح ، فحجم عدائنا للغرب ، هو الذي يعكس حجم تخلفنا . وبما أن تخلفنا فظيع وكبير وشائك ، فعداؤنا للغرب أيضا ، فظيع وكبير وشائك . وهما ظاهرتان باديتان للعيان ، لا ينكرهما أحد ؛ حتى وإن وقع الاختلاف على تفسيرهما . وليس من الصعب ملاحظة أن العداء للغرب مُستشرٍ بحجم فشلنا الحضاري ، وأنه كلما استفحل الفشل في مكان ما ؛ استشرى العداء للغرب . هناك علاقة عضوية واضحة بين الحالتين !. هذه العلاقة موجودة ليس على مستوى عالمنا العربي أو الإسلامي فحسب ، بل حتى على مستوى العالم أجمع . فبقدر ما يتقدم أي شعب أو تتقدم أية دولة ، تجد أن هناك نِسبة من التصالح مع الغرب ، تتناسب طردياً مع مستوى التقدم . ولعل الصين آخر مثال ، فهي قد غرقت في التخلف يوم أن وضعت نفسها في الاتجاه المضاد للغرب ، وبدأت تتقدم في الوقت الذي بدأت فيه بالانفتاح على الغرب ، أو بدأت تنفتح على الغرب في الوقت الذي بدأت فيه مسيرة تقدمها ، لا فرق . الحقيقة التي يجب رصدها هنا ، هي أن هناك علاقة عضوية بين طبيعة العلاقة مع الغرب، وبين التقدم . هل نحتاج لأمثلة ، والأمثلة كبيرة وضخمة بحجم دُول كاليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا ..إلخ ، دول لا نحتاج لمجهر كي نراها !. اليابان مثلا تقدمت ، ولكنها في الوقت الذي عادت فيه الغرب الحضاري ، كادت أن تنتحر وتنتهي من الوجود . أما بعد أن تصالحت تماما مع الغرب ، فقد تحققت معجزة اليابان التي هي في الحقيقة : معجزة الغرب في الشرق . أيضا ، الفرق بين الكوريّتين أبرز وأصدق مثال . توجد حرية ، وديمقراطية ، ونمو وتقدم ، وكل ذلك بأرقام قياسية ، في كوريا الجنوبية ذات العلاقة الطبيعية مع الغرب (= المستغربة) ، كما توجد ديكتاتورية ، وسجن كبير ، وتخلف ، وانحدار واندحار ، في كوريا الشمالية التي تعادي الغرب وترفض الغرب . إن قانون هذه العلاقة لا يسري على التنوع بين الدول فحسب ، بل يسري أيضا على التنوع حتى داخل الدولة الواحدة أو الأمة الواحدة . في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين كانت الصين مُحيطاً من التخلف الإداري والمادي ، بينما كانت هونغ كونغ جوهرة من التقدم في محيط من التخلف الصيني . كانت الصين تعزل نفسها عن العالم الغربي ، بينما بقوة الاستعمار كانت هونغ كونغ الصينية نافذة للغرب أو نافذة على الغرب . أيضا. ولك أن تتأمل حالة إيران في حقبتين : حقبة ما قبل الخميني ، والحقبة الخمينية . إذ رغم سلبيات العهد الأول ، يبقى أن الانفتاح في عهد الشاه كان يحقق لإيران كثيرا مما لا تستطيع أن تحلم به الآن . لك أيضا أن تتأمَّل دولا تدخل في إطارنا الثقافي ، وتتباين فيها درجة قبول الغرب ورفضه ، كمصر مثلا ، ستجد أن البيئات المنفتحة على الغرب هي الأكثر تطورا ورقيا إنسانيا ، بينما البيئات التي تستمد وعيها من خرافات التقليديين هي البيئات الأشد عداء للغرب ، وفي الوقت نفسه ، هي الأشد تخلفا وكفرا بحقوق الإنسان . اكتشف هذه العلاقة حتى على مستوى المدينة الواحدة ، بل حتى على مستوى الأُسَر والبيوت ، بل حتى على مستوى الأفراد ؛ ستجد أنك أمام هذه الحقيقة التي تفرض نفسها بقوة حضورها في الواقع. ما أريد التأكيد عليه ، أن كل هذا لا يحدث مصادفة . إن كل هذا يعكس حقيقة لا نريد تصديقها ، ونعتقد أننا ننفيها من الواقع بمجرد إنكارها . لم نصل بعد إلى الوعي بأن الغرب ليس مجرد مجموعة دول لنا الحق في أن نقبلها أو أن نرفضها ، وإنما هو أكبر من ذلك بكثير ، إنه الحضارة الإنسانية في أشد صورها حيوية في الواقع ، وإن الغرب ليس حالة طارئة ومفاجئة ، بل هو نمو بأسباب ومسببات ، تراكمت وتفاعلت ، إلى أن خرج هذا العالم (الذي هو عالم غربي ولو كان شرقيا) للوجود . أي أن خلفه كثيراً من الأسرار المرتبطة بالثقافة الغربية والإنسان الغربي ، بحيث لا يمكن مقاربة الحضارة الغربية إلا بمقاربة هذه الأسرار . ما أذكره هنا ، هو نتيجة مقاربة شخصية للغرب . فعلى مدى عشر سنوات مضت ، وفي فترات متقطعة ، عشتُ مع ثلاث عشرة أسرة غربية ، عشت داخلها كأحد أبنائها . بعضها لم أقضِ معها أكثر من أسبوع (لأنني لم أجد فيها ما يستحق التأمل ؛ إذ هي محدودة الفعل وأحادية العلاقة) بينما امتدت فترة إقامتي مع بعضها لثمانية أسابيع . خلال فترات الإقامة ، كنت أعيد قراءة ما قرأته للغرب وما قرأته عن الغرب على هذه العيّنات الواقعية ، كنت أقرأها حتى في أخص خصوصياتها . هذه العينات كانت موزعة على ثلاث قارات لا تجمعها إلا ثقافة واحدة : ثقافة الغرب. عندما تعيش مع الغربيين (من الداخل) ستراهم على حقيقتهم كما هم ، سترى ردود أفعالهم تجاه ما يحدث في العالم ، وخاصة في الأحداث ذات الأبعاد الرمزية ، سترى كيف يتعاملون مع بعضهم ، كيف يغضبون ، وكيف يفرحون ، وما الأشياء التي تزعجهم ، وما الأشياء التي تفرحهم ، وما طبيعة علاقتهم بالمجتمع / المجتمعات من حولهم ، بداية من الأبناء والأحفاد والأقارب ، فالجيران ، فالحي فالمدينة ...إلى علاقتهم بحكوماتهم وبالدول والشعوب الأخرى . قد تُغالطك بعض النماذج ، وقد لا تستطيع استخلاص النتيجة من عينة واحدة أو اثنتين أو ثلاث . لكن ، لن تستطيع النماذج بمجمل عناصرها (وبعض الأسر يرتفع عدد عناصرها بمن فيهم الأصدقاء وزملاء العمل إلى خمسين فردا أو أكثر ، فضلا عن العناصر غير البشرية) أن تنسج خيوط كذبة ما ، كما أن ما لا ينطبع على وجوه الآباء ولا يتساقط من فلتات ألسنتهم ، ستجده عند الأبناء المراهقين ، وعند الغاضبين في حالات الغضب أو التوتر ، أو في حالات الاستفزاز المقصود . لقد استخلصتُ نتائج كثيرة من خلال قراءة وفحص هذه العيّنات . لكن ، أهم ما يمكن التأكيد عليه في سياق علاقتنا المأزومة بالغرب ، ما يلي : 1 الغرب لا يفكر فينا ، وليس معنياً بنا بالمستوى الذي نتخيله . بل الغرب أحيانا ، وفي معظم شرائحه ، لا يعرف بوجودنا على ظهر هذا الكوكب ، وإن عرف عرف بالشكل المجمل ؛ لأن تأثيرنا وحضورنا في العالم شبه معدوم . ولولا الأحداث الإرهابية التي صدرت عن بعض العرب وبعض المسلمين باسم الدين وباسم الدفاع عن أوطان العروبة ؛ لما سمع الغرب بنا . ولا شك أن الإرهاب بطاقة تعريف أدخلتنا إلى الوعي الغربي ، ولكن من أسوأ الأبواب . 2 الغرب بمجمله نزّاع إلى الحرية ، وهو لا يتصور أن تكون الحرية منقوصة . وتاريخه يمكن تفسيره بأنه تاريخ تحقق الحرية ، بداية من تأمين لقمة العيش التي لا حرية بدونها ، والتي هي تحرّرٌ من أسْر الطبيعة المتمثلة بضرورات الجسد ، وانتهاء بتحرير الإنسان من هيمنة أخيه الإنسان ؛ بجعل القانون هو الحاكم ، وليس ما يحكم به الأشخاص بالأهواء . لدى الغربي حساسية شديدة تجاه تدخل الآخرين في حياته ، بل هو لا يتصور أن يحدث ذلك له . ولهذا ، من المستحيل أن تكون تدخلاته العسكرية تتغيا الهيمنة بمفهومها التقليدي ، بل هو لا يعيها إلا من حيث هي تمدد طبيعي للحرية ، وتحرير للآخرين حتى من أسر أنفسهم . وهذا وضع شائك ، يحتاج لمزيد من التحليل الذي يضيق عنه هذا السياق. 3 المرأة الغربية حصلت على كامل حقوقها قانونيا . ومع أنها تعاني من حالات تمييز ثقافية ، حالات يصعب ضبطها قانونيا ، إلا أنها نالت أفضل الحقوق ، مقارنة بوضع المرأة في كل أقطار الأرض . وهذا واضح جدا ، ولا مجال للمقارنة ، فضلا عن توهم التفضيل . ومن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا المجال ، أن فضاءات الحرية هي التي منحت المرأة حقوقها . الحرية نزعت كل صور التحكم عن المرأة ، وجعلتها لا تحتاج إلى أي أحد إلا بمقدار ما يحتاج هو إليها . والذين يعيبون بعض صور الانحراف عند المرأة الغربية ، يتناسون أو يتجاهلون أنه أمر يطال الانحراف ذاته ، سواء عند المرأة أو عند الرجل . أي أن انحرافها ؛ إن انحرفت ، نابع عن اختيار شخصي ، وليس انحرافاً مفروضا عليها ، كما يُروّج لذلك الشعاراتيون . فباستطاعة المرأة الغربية ممارسة أشد صور المحافظة ، وفي الوقت نفسه الحصول على كامل الحقوق ، بل على أفضل الفرص الحياتية التي قد تتعذر على كثير من (المنحرفات !) . 4 من يتعمق في حياة الغربيين يلاحظ أن البعد الإنساني حاضر بقوة ، بل يصل أحيانا إلى درجة الحساسية المرضية تجاه كل ما ينتهك إنسانية الإنسان . ولهذا لا يتصور الغربي أن ينتهك إنسانٌ إنسانية أخيه الإنسان . طبعا ، الغربي يدرك وجود هذا في الواقع ، لكن (وهذا ما أقصده) لا يتصور أن يتسامح القانون أو العُرف العام مع هذا الانتهاك . ولهذا تندهش وتُصدم تلك الشعوب التي اعتادت مثل هذه الانتهاكات بالأحكام القضائية الغربية القاسية التي تطال بعض صور الانتهاك أو الاستغلال ، وتتصورها ظلماً ؛ بينما هي عدالة إنسانية ، عدالة تنتفض عندما تُنتهك إنسانية الإنسان .