هذا موضوع طرقت بعض جوانبه من قبل ، وخاصة الجانب السيكيولوجي منه ، ولم أكن لأعود إليه ؛ لو لم تطفح على السطح مسائل في هذه القضية الشائكة ، مسائل كنا نظن أنها أصبحت في دائرة النسيان أو الهجران . لكن ، يبقى التيار التقليدي المتكلس ، رغم حالة التردي والتراجع التي يمر بها ، قادرا على إحياء الأعشاب السامة في تلك الخرائب المهجورة التي أخنى عليها الدهر كما أخنى على لُبَد . ولهذا ، كان لابد من العودة بين الحين والآخر إلى تلك الخرائب لاجتثاث سمومها ، أو لإعاقتها عن النمو ، على الأقل ؛ حتى لا تكون مصدرا لترويج السموم في مجتمع لم يصبح بَعْدُ ، في سياقه الجماهيري ، قادرا على فضح حقيقة مروجي تلك السموم . التقدم هو عدو المتطرفين التقليديين الذي سيلغي وجودهم بمجرد رسوخه في الواقع ؛ لأنهم لا يمثلون إلا الموقف المضاد : التخلف . وهم يعون هذه الحقيقة تماما . ومن المعروف بداهة أن هذا التقدم غربي الوجه واليد واللسان كلما قلنا قد تجاوزنا القنطرة الأولى ؛ عاد بنا إخواننا المتطرفون إلى المربع الأول ، بل عادوا بنا مربعات لم تعد تُرى بالعين المجردة . وبصراحة ، لم أكن أتصور أن يوجد اليوم من يبحث عن حكم : ( السلام على غير المسلم ) ، وأن يناقش في المسألة وكأنها محل نقاش . لكن ، لا شيء خارج المعقول في السياق التقليدي . لقد تفاجأت بمجموعة من مُريدي التقليدية ، تطرح مسألة السلام على غير المسلم ، وهل هذا جائز أم لا . والمصيبة أن ( المعتدلين ) ممن يرون جواز السلام خاضوا في المسألة مع هؤلاء ، ودافعوا عن رؤيتهم في الجواز ، وكأنهم بهذا يضعون المسألة على طاولة البحث ، ومن ثم ، طاولة إمكانية التطبيق . لقد كان مجرد طرح المسألة يُعد فضيحة إنسانية كبرى ، أكبر من مجرد وجود متطرفين لدينا ، يرون عدم جواز تبادل السلام مع غير المسلمين . أنا هنا لا أتناول هذه المسألة ، فليست مجالا للتداول أصلًا في نظري ، ومن العار الذي يصل حد الفضيحة الأممية أن تكون مجالا للتداول . لكن ؛ لتُدرك حجم الفضيحة ، لك أن تتخيل مجموعة تدعي البحث والعلم ، وقد جلست تتناول : كيف يمكن استرقاق البشر الآن ، وكيف يمكن بيعهم وشراؤهم ، وعلى من يجوز بيعهم ، وإذا كان لديك رقيق مسلم ، فما وضعيته ، وما طريقة التعامل معه ..إلخ . هل يمكن طرح مثل هذه المسألة ، هل يمكن طرح إمكانية استرقاق البشر الآن ؟ ، هل يمكن نقاش هذه المسألة وكأنها قابلة للتطبيق في يوم من الأيام ؟ . أليست مسألة تاريخية تجاوزها الزمن ؟ . أليست مسألة تبدو بوضوح ، وكأن من يستجيزها ، فضلا عن أن يمارسها ، فهو في نظر العالم أجمع من كبار المجرمين ؟ . أليست تترسخ في الوجدان ، قبل أن يُعرف حقيقة عبر وسائط المعرفة ، أنه لا توجد دولة في العام ؛ إلا وتعد الاسترقاق أكبر جريمة بحق الإنسان ، وإلا فهي ليست دولة بالعُرف العالمي ، بل مجموعة من قطاع الطرق المتوحشين ؟ إذن ، كما أن مسألة استرقاق البشر لم يعد أحد يُفكرّ فيها مجرد تفكير ، فكذلك ينبغي أن يكون الشأن في التواصل الطبيعي مع الآخرين . في تقديري أن مسألة إلقاء ( تحية السلام ) على غير المسلم ، رغم هامشيتها اليوم في الجدلية الدينية / الإسلامية ، هي أبعد رمزية من مسألة الاسترقاق . الاسترقاق خضوع لنزوات الطمع أو العدوان ...إلخ . أما الامتناع عن تحية غير المسلمين ، فهو يعني أن يمارس المسلم أردأ الأخلاق وأرذلها وأشدها وقاحة مع الآخر ، وهو في حالة طبيعية ، ومن ثمَّ ، يرى أن ما يقوم به فعلا طبيعيا لا وقاحة فيه ولا عدوان ! . هل نحن نفضح بهذا العرض جدليات وحوارات بضعة مجانين ، أم ماذا ؟ ، هل هو جنون صريح ، أم هو وضع شاذ أو وضعية شواذ تدخل في خانة اللامعقول التقليدي فحسب ؟! لا أدري ، لكن ، تصوّر أن جارك غير المسلم الذي قد تُجاوره لعشرات السنين ، أو زميلك في العمل الذي تقضي معه من الوقت أكثر مما تقضيه مع عائلتك ، تمرُّ به أو يمرّ بك ، أو تلتقيه بعد طول غياب ، فلا ترى أنه يستحق منك حتى إلقاء السلام ؛ لمجرد أنه غير مسلم . انظر إلى نفسك من بعيد بهذه الصورة ، انظر إلى الأمر من غير زاويتك ، تصوّر أن شعباً من الشعوب لا يرى جواز أن يلقي عليك التحية لمجرد أنك مسلم ، وأنه لذلك قد اتخذ منك موقفا عدائيا / وجدانيا ؛ دون أن تكون فعلت ما يسيء إليه في قليل أو كثير ، تصوّر أنه يكرهك ويرفض التواصل معك ؛ لمجرد أنك لا تنتمي إلى دينه أو وطنه أو عرقه . ألن تهمس في نفسك ، وربما تصرخ مندهشا ومعترضا ! ؛ فتقول : أية نفس منتنة تمتلئ بالحقد وتمور بالكراهية ، هذه النفس التي تُسقط أبسط صُور الروابط الإنسانية ، ولو في تبادل السلام الذي لا يعني أكثر من إلقاء الأمان ؟! ، الأمان الذي لا يقلق ولا يزعج إلا أولئك الذين لا يريدون أن تعيش البشرية في أمان . في الحقيقة ، أن نشر وتشريع ثقافة الكراهية هو المراد من طرح مثل هذه المسائل للحوار ، واستحضارها من عوالم المجهول . ليست عملية بريئة ، ولم تأتِ عبثا في مثل هذا الوقت ، بل هي محاولة تأسيس لثقافة كراهية مُوجّهة خصوصا إلى الغرب ، ذلك الغرب مصدر الجرح النرجسي للذات ؛ بدليل أن كثيرا من مؤيدي عدم جواز إلقاء السلام على غير المسلم ، حددوه صراحة ب( اليهود والنصارى ) ، وهم يقصدون به الغرب تحديدا وحصرا . ولهذا ، فبقدرما يكون تناول هذه المسائل تشريعا لثقافة الكراهية التي تصنع التطرف ، بقدرما هو تعزيز للانفصال عن العصر الحديث الذي يقف على قمته الغرب عسكريا واقتصاديا وحضاريا وإنسانيا . التقدم هو عدو المتطرفين التقليديين الذي سيلغي وجودهم بمجرد رسوخه في الواقع ؛ لأنهم لا يمثلون إلا الموقف المضاد : التخلف . وهم يعون هذه الحقيقة تماما . ومن المعروف بداهة أن هذا التقدم غربي الوجه واليد واللسان . وقد توصلوا بذكائهم المعهود ، إلى أنهم كي يمنعوا هذا التقدم الذي سيلغي وجودهم المعنوي ، لابد أن يضعوا الحواجز بين الناس / الجماهير وبين هذا الغرب ، أي بين الناس وبين المصدر الحقيقي للتقدم . ولهذا ، فطرحهم اللامعقول لمسألة : إلقاء السلام على غير المسلم ( = اليهود والنصارى = الغرب ) ، وتأكيدهم المحموم على تحريم التواصل ، هو في حقيقته دعوة مسعورة وحانقة لقطع الصلة ، حتى في أبسط صورها الرمزية ، بهذا العالم الغربي ، العالم الذي يقدم الوعي المضاد. كثيراً ما تناولت إشكالية علاقتنا مع الغرب ؛ لأن علاقتنا مع الغرب خاصة ليست مسألة هامشية ، بل هي في حقيقتها وجوهرها ، وكما أكرر دائما ، علاقة مع العصر الحديث . لم يكن ما قلته في الغرب سابقا ، وما سأقوله لاحقا مديحا في الغرب ؛ رغم أنه يتراءى لعيون التقليديين وجماهيرهم كذلك . الغرب لا يحتاج مديحا ؛ لأن واقعه ومنجزه الحضاري أكبر من كل الكلمات ، ولن يضيره ذمُّ ذامٍّ ، كما لن ينفعه مدح مادح ، خاصة إذا ما كان التقييم خارجا من ثقافة ورؤية العالم الثالث الذي لا يزال يحبو ثقافيا . أي أن استحضار الغرب كواقعة حضارية إيجابية لم يسبق لها مثيل في التاريخ الإنساني ( رغم كل سلبياتها ) هو من ضرورات تعزيز حاضر الأنا ، هو فعل إيجابي لنا ، هو تدعيم للمسارات الإيجابية في حاضرنا ، وليس ثناء على الغرب ، رغم أنه لابد أن يظهر كذلك . ولهذا ، فعندما أضع الصورة الحقيقية للغرب في سياقها الصحيح ، فإنني لا أفعل ذلك من حيث كوني معنيا بالغرب ، فالغرب لم ولن يسمعني ، ولديه من كوادره الكفاية ، بل وما فوق الكفاية ، وإنما أفعل ذلك لأنني مَعنيّ ومهموم ومشغول أساسا ، بل وتحديدا ، بأمتي : أمة الوطن ، وأمة الثقافة ( = العرب ) وأمة الدين ( = المسلمين ). إننا عندما نصنع صورة سلبية غير حقيقية للغرب ، عندما نتصور الغرب عدواً وهو ليس كذلك بحال ، عندما نضخ ثقافة الكراهية تجاهه ؛ فإننا لا نضر الغرب ، وإنما نضر أنفسنا . نحن الذين نحتاج الغرب في كل شيء ، وهو الذي لا يحتاجنا في أي شيء . هذه حقيقة بسيطة وواضحة ، يستطيع إدراكها من تجرد للحياد ، ورأى الأمور بموضوعية ، ولو لدقيقة واحدة . وكل ما سوى ذلك من التصورات السلبية عن الغرب ، فإنه لا يعكس واقع الغرب ، وإنما يعكس التشوهات الثقافية والنفسية التي نعاني منها . عندما نرى الغرب سلبياً ، فإننا لا نرى حقيقة الغرب ، وإنما نرى حقيقة أنفسنا ؛ بدليل أن العالم كله يرى الغرب بصورة تختلف عن رؤيتنا ، أقصد رؤية جماهير التقليديين . إذن ، لابد من ثورة ثقافية للتعريف بواقع الغرب وبثقافة الغرب وبما قدمه الغرب للإنسانية جمعاء . لابد أن تتضح الصورة لدينا ، كما هي واضحة عند بقية الأمم باستثناء العرب وبعض المسلمين . متطرفو القومية وحاملو شعاراتها الجوفاء ، ومنظّرو الإيديولوجيات الإسلامية المتطرفة ، قاموا بزخ كم هائل من ثقافة الكراهية لهذا الغرب ، وصوّروه على أنه المعتدي والمستغل والحاقد ؛ رغم أن الغرب لم يتعمد الإساءة إلينا أو الإضرار بنا في يوم من الأيام ( أقصد الغرب الحضاري ، وتحديدا خلال القرنين الماضيين ، حيث اشتبكنا معه في حال تمدده الحضاري ) . بل على العكس ، أثرى الغرب حياتنا ، ونقلنا من حال إلى حال ، وحررنا من تخلفنا ؛ قدر ما سمحنا له بذلك ! . وكل ما نراه سلبياً من تصرفاته تجاهنا ، سنرى أنه سلبي فقط ؛ من وجهة نظر المتخلفين القانعين بالتخلف ، الذين يرون أن التخلف إلى درجة الموت أرحم من أن يتقدموا بواسطة الغربي الذي يذكّرهم نجاحه الكبير بفشلهم الكبير ؛ فكيف لو تقدموا على يديه ؟! . إن خطاب هؤلاء المتخلفين هو الخطاب الذي لا يزال سائدا حتى الآن . ولهذا لا نزال متخلفين حتى الآن ؛ رغم كل المحاولات التي قام بها ، ولا يزال يقوم بها ، دعاة التحرر والتنوير ؛ لأن خطابهم خطاب علم وثقافة لا يصل مباشرة إلى الجماهير ، بينما يقطع الطريق دعاة التخلف باختطاف الجماهير بخطابهم العاطفي المباشر الذي يُرضي غرائز الغرور الطفولي الساذج لدى الجماهير ؛ عندما يقنعهم كاذبا ومزيفا ومزورا بأنهم الأفضل والأكمل ، وأن لهم من الأمجاد والبطولات والفضائل ما ليس لأحد من العالمين !.