من كان يصدق بأن كل الاختراقات التكنولوجية المذهلة التي قدمتها شركة أبل في الآونة الأخيرة بقيادة عرابها ستيف جوبز ما كانت لتحدث لو لم يستمع جوبز لنصيحة اثناه فيها الراهب الياباني كوبون تشينو عن رغبته في ترك الحياة والمال والأعمال والدخول في سلك الرهبنة ! لطالما كان جوبز معجبا بالديانة البوذية التي تركت أثرا بالغا في حياته ابتداء من طريقة ارتدائه لملابسه (الفانيلة السوداء والجينز الأزرق والحذاء الرياضي , تشكيلته المفضلة والخالدة من الملابس) وانتهاء بأسلوب ادارته الصارم لشركة أبل. في كل المؤتمرات الصحفية واغلب المناسبات , لن يكون من الصعب التكهن بما سيرتديه جوبز , فخزانة ملابسه مليئة بذات الفانيلة السوداء ذات الرقبة والأكمام الطويلة، يردد ستيفن في أكثر من مناسبة " لا يهمني على الاطلاق ما يتناقله الناس عن طريقة لبسي, كما ان الاستمرار على ذات اللباس يوفر عليك وقتا ثمينا في الصباح اذ لن تضطر للحيرة والتفكير فيما ستلبسه لذلك اليوم". اسلوب اللباس ليس نقطة الغرابة الوحيدة في حياة عراب أبل, اذ ان حياته مليئة بالمفارقات, فشخصيته المهووسة بالكمال هي التي قادته على الأرجح لتحقيق النجاح الباهر في منتجات شركته كما أن ذات الشخصية الكمالية خلقت له نوعا من المعاناة الطريفة, اذ من النادر أن يشتري شيئا يرقى الى ذائقته, فبيته الذي اشتراه في Woodside mansion على سبيل المثال كان خاويا على عروشه يعاني من قلة الأثاث ولم تحظ بالاثاث فيه إلا غرفة واحدة اذ لم يجد ستيف في كتالوجات الأرض ما يرضي ذائقته ! (قد يكون مرد هذا سبب شغفه بالسيارات الألمانية وفلسفة الألمان في السعي نحو الكمال!! ). ويعتبر جوبز مالئ الدنيا وشاغل الناس الذي رسخ اثره التكنولوجي في مسيرة الحواسيب والهواتف المحمولة وهو بلا شك أحد أكثر العقول ابداعا وحيوية نتاج حياة مليئة بالمعاناة والتحديات. فقد كان على شفير الموت مرة, وعلى شفير الإفلاس مرة كما أنه عاش كالمتشرد في مطلع عمره يجمع القوارير الفارغة ليبيعها على شركات إعادة التدوير بخمسة سنتات, يقول ستيف عن تلك الحقبة: " كنت لا أملك المال لدراسة جميع المواد فاضطررت لاختيار المهم منها ودراستها, كما أن السكن الجامعي لم يكن في متناول ميزانيتي وأنا الذي كنت أقتات من خلال جمع القوارير الفارغه وبيعها لشركات اعادة التدوير, حللت مشكلة السكن بالنوم على الأرض في غرف زملائي. الا انني كنت أكافئ نفسي كل يوم أحد بالمشي سبعة أميال الى احد مطاعمي المفضلة لأحظى بوجبة جيدة" . منذ بداية حياته عانى ستيف النبذ, فهو لم يعش في كنف والديه البايولوجيين (والده بالمناسبة هو البروفيسور السوري عبد الفتاح الجندلي واخته هي الروائية منى سمبسون). ويتحدث جوبز عن تلك المعاناة فيقول : " عندما عرضتني امي للتبني بسبب صغر سنها أخذني محام وزوجته, الا أنهما فوجئا بي فقد كانا يطلبان فتاة للتبني, عندها اتصلت عائلة اخرى تطلب ان تتبناني الا ان ضعف المستوى التعليمي للأب والأم في تلك العائلة جعل والدتي تتردد في ارسالي الى تلك العائلة الى أن قطع والد تلك العائلة وعدا بإرسالي للمدرسة وإكمال تعليمي" في خطاب ألقاه ستيف جوبز عام 2005 في حفل تخرج جامعة ستانفورد تحدث عن ثلاث قصص في حياته, كان ستيف ملهما جدا في ذلك الخطاب, كان بالفعل يبوح بأمور غاية في الإنسانية مفعمة بالأحاسيس الشفافة. تحدث عن نبذه في طفولته ومعاناته في شبابه مع الدراسة الجامعية التي التهمت أغلب مدخرات عائلته بالتبني , الى درجة دفعته الى ترك الجامعة والالتحاق بدورة لتعلم الخط (كان لها الفضل في ادخال الخطوط على اجهزة الماكنتوش وبالتالي تداولها في الأنظمة الأخرى ) كما تحدث عن انشائه لشركة أبل وطرده منها فيما بعد وعودته اليها. يقول جوبز بأنه ممتن لجميع العقبات التي حدثت في حياته اذ لولاها لما تبلورت خريطة نجاحه " كان الطرد من شركة أبل أجمل ما حدث في حياتي, لقد انتقلت من ثقل النجاح الى خفة البدء من جديد .. كان ذلك هو ما أنتج الأفكار الخلاقة في الخمس سنوات التي أعقبت ذلك". المرض كان مدرسة أخرى لقنت جوبز درسا في الحياة, فرغم اسلوبه الصارم في الأكل الذي يحتم عليه تجنب أكل اللحوم بالاضافة الى جميع المنتجات الحيوانية مثل مشتقات الألبان والبيض, الا انه أصيب بسرطان البنكرياس من النوع الشرس. حدد له الأطباء من ثلاثه الى ستة اشهر هي المدة المتوقعة له في الحياة ونصحوه بان يبدأ في حزم الحقائب استعدادا للرحيل الا انه بعد اخذ خزعة للورم تبين انه من النوع النادر جدا الذي من الممكن شفاؤه جراحيا. " تعلمت أن اتذكر الموت, اذ ان تذكر الموت هو أفضل شيء لتفادي مصيدة أن لديك أمراً تخسره. كما تعلمت أن أنظر في المرآة كل صباح وأسأل ذاتي : لو كان هذا اليوم هو آخر يوم أعيش فيه فما هو الشيء الذي يتحتم علي إنجازه ؟" هكذا يردد التلميذ النجيب ستيف جوبز. جوبز المتناهي البساطة قد لا يقنعك مظهره بأنه أكثر من دهان أو مزارع أو صاحب ورشة اصلاح سيارات -اذا بالغت في تقييم وضعه الاجتماعي-, الا أن ذات الرجل البسيط يحمل عقلا جبارا لا يحل في مكان إلا ضخه بطاقة لا متناهية من الابداع والنجاح الاستثنائي. ففي مرآب السيارة في منزل عائلته أطلق جوبز شركة أبل عندما كان في سن العشرين لتنمو وتكبر وتصبح شركة كبرى تضم أكثر من 4 الآف موظف برأس مال يبلغ ملياري دولار. وبعد أن خرج منها اثر خلاف في وجهات النظر مع ادارتها, تحرر جوبز من ثقل النجاح كما يصفه الى خفة البدء من جديد, ممسكاً بعصاه السحرية ليضرب في مكان آخر فخرجت أعظم شركات الرسوم المتحركة في العالم Pixar Animation Studios التي أنتجت أفلاماً رائعة مثل فيلم Toy story وفيلم Up وغيرها من الروائع. حكاية جوبز لم ولن تنتهي اذ لا يمكن التنبؤ بما يمكن أن يجود به عقله الخلاق, وربما يسبب جرعة أكبر من الفزع لمنافسيه والمزيد من الإثارة لمعجبيه عندما يسمعونه يردد مقولته الشهيرة " نحن لا نعلن عن خططنا المستقبلية, بل نعمل عليها بسرية تامة ثم نعلنها في الوقت المناسب". وبالفعل, عاد جوبز بعد سنوات طوال الى عشقه الأول (أبل) – كما يصفها – بعد ان قررت ابل شراء نيكست وانطلق بها نحو أفق لم تكن تحلم به, عاد لينفحها أروع ابداعاته التي جعلت التفاحة المقضومة تدخل ملايين البيوت والجيوب!