إذا تهاوت الأمة تهاوى معها كل شيء، وإذا مرضت مرض معها كل شيء.. اقتصادها وسياستها ولغتها وأدبها، وفنها.. فتدب فيها الأدواء والأوجاع ويأتيها البلاء من كل باب.. والذي يستمع ويرى ما تبثه محطاتنا الفضائية من عبث يسمى بالفن أو الغناء يدرك أننا بلغنا الدرك الأسفل من التفاهة، والبؤس.. إلى درجة أن المرء يتمنى لهذا النوع من الغناء وأهله الداء والبلاء.. أو أن يحدث له جميعاً ما حدث لذلك المغني القديم الذي سبق ان تحدثت عنه إليكم ذات مرة، فقد كان المغني «علوية» من أشهر المغنين وأقدمهم وأكثرهم أدباً وصنعة في عهده، وكان الخليفة «الأمين» يصطفيه، وقد تخرج على يد «ابراهيم الموصلي».. وقد مات هذا المغني ميتة مأساوية، فقد أصابه داء الجرب، فشكا ذلك إلى صديقه «يحيى بن ماسوية»، فبعث إليه بدواء مسهل، وطلاء يعالج به الجرب، فأخطأ في تناول الدوائين، حيث شرب الطلاء وطلى جسده بالمسهل، فمات..!! أتذكر حكاية هذا المغني المسكين وأترحم عليه، وأتمنى أن يصيب كثيراً من مطربينا ومطرباتنا داء الجرب، فيشربون الطلاء كي يموتوا ونستريح.. لأنهم آذونا وحاصرونا واغتالوا الذائقة الفنية لدينا وفتكوا بها... * * * أيها السادة إني وكثير من أمثالي نتساءل في براءة وصدق، لماذا يعاقبنا أصحاب القنوات الفضائية التلفزيونية وبعض الإذاعات هذا العقاب الشديد؟ لماذا يصبون في آذاننا، وأذواقنا، هذا الوباء وهذا الداء باسم الفن والغناء..؟ هل يجوز عدلاً، وأخلاقاً، وذوقاً، أن تفترس ذائقة الناس بهذا الشكل المتوحش، ولا يتحدث أحد ولا يستنكر أحد ولا يحاول أن يكبح جماح هذا الزعيق والنهيق..؟ أكاد أجزم لو أن مخرجاً من مخرجي سفلة الفن هؤلاء، سجل نهيق حمار وأضفى عليه شيئاً من الموسيقى لراج هذا التسجيل وماج، وأصاب بعض شبابنا الكثير من الهياج، لسماع هذه الصرخة الجديدة في عالم هذا الفن العفن..!! لقد أصبحت الأرض حمى مستباحاً، والفضاء حمى مستباحاً، والأخلاق حمى مستباحاً.. والويل لك إذا تحدثت عن الذوق والأخلاق، لأنك سوف تنعت بالتخلف والرجعية، والبدوية.. بل ستتهم بأنك ممن يدعون إلى تجميد حركة الحداثة الفنية، والابداع، وربما التنوير..!! مسكينة هذه الأمة فقد اختلط حابلها بنابلها، بل اختلط ماء شربها بماء مجاريها، وصارت تشرب كل شيء، وتهضم كل شيء، لا تستنكر، ولا تسأل، ولا تناقش، بل استسلمت لداء السهال الذي انتقلت عدواه من أفواه بعض مغنيها إلى آذان معظم أبنائها..!! ودائماً وكثيراً ما اسأل أين نقاد الفن والغناء..؟ أين اتحادات الفنون والمقيمون عليها..؟ أما من أحد ينصت..؟ أما من أحد يسمع..؟ أيها السادة.. الفن الرفيع دائماً يخلق الذوق الرفيع، والذوق الرفيع دليل على وعي الأمة، وحصانتها من التفاهة والاحتقار.. وهذه الأجيال ليست قطعاناً من الكلاب الضالة.. ولا «الجحوش» المهملة.. إنهم أبناء هذه الأمة وصناع مستقبلها.. ولابد من الاعتلاء، والارتفاع بأذواقهم من حمى الأغاني التي تفوح منها رائحة الدنس.. ومن الأجساد التي تمور في أكسية الرذيلة العهر.. حدثوا الفن كما تشاؤون، وطوروه كما تشاؤون، ولكن لا تخرجوه من دائرته إلى دائرة الرقاعة والابتذال.. نرجوكم ونستجدي ونتوسل إليكم.. لأننا في الواقع لم نعد نمتلك، إلا مثل هذه الرجاءات والتوسلات فقط.. أما والله لو كان لنا من الأمر شيء، في محاسبة ومجازاة كثير من المطربين والقائمين على بعض القنوات ووسائل هذا اللون الرديء من الغناء أقول: والله لو كان لنا من الأمر شيء لسقيناهم كثيراً مما شربه ذلك المغني «علوية» فأرحنا واسترحنا وكفينا البلاد والعباد من شرورهم.