كان المغني «علوية» من أشهر المغنين وأقدمهم وأكثرهم أدباً وصنعة في عهده، وكان الخليفة الأمين يصطفيه، وقد تخرج على يد إبراهيم الموصلي.. وقد مات هذا المغني ميتة عجيبة، فقد أصابه الجرب، فشكا ذلك الى صديقه يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواء مسهل، وطلاء يعالج به الجرب، فأخطأ فشرب الطلاء وطلى جسده بالمسهل فمات.. أتذكر حكاية هذا المغني المسكين وأترحم عليه، وأتمنى أن يصيب كثيراً من مطربينا ومطرباتنا داء الجرب، فيشربون الطلاء كي يموتوا ونستريح.. لأنهم آذونا وحاصرونا واغتالوا الذائقة الفنية لدينا..وإنني ومثلي الكثير نتساءل في براءة وصدق لماذا يعاقبنا أصحاب القنوات الفضائية التلفزيونية وبعض الإذاعات هذا العقاب الشديد..؟ لماذا يصبون في آذاننا، وأذواقنا، هذا الوباء وهذا الداء باسم الفن والغناء..؟ هل يجوز عدلاً، وأخلاقاً، وذوقاً، أن تفترس ذائقة الناس بهذا الشكل المتوحش، ولا يتحدث أحد ولا يحاول أحد أن يكبح جماح هذا النهيق..؟أكاد أجزم لو أن مخرجاً من مخرجي سفلة الفن هؤلاء، سجل نهيق حمار وأضفى عليه شيئاً من الموسيقى لراج وماج، وأصاب بعض شبابنا الكثير من الهياج، لسماع هذه الصرخة الجديدة في عالم الفن.. لقد أصبحت الأرض حمىً مستباحاً، والفضاء حمىً مستباحاً، والأخلاق حمىً مستباحاً.. والويل لك إذا تحدثت عن الذوق والأخلاق، لأنك سوف تُنعت بالتخلف والرجعية، والبدوية.. بل وأنك ممن يدعون الى تجميد حركة الحداثة الفنية، والإبداع.. مسكينة هذه الأمة اختلط حابلها بنابلها، بل اختلط ماء شربها بماء مجاريها، وصارت تشرب كل شيء، وتهضم كل شيء، لا تستنكر، ولا تسأل، ولا تناقش. بل استسلمت لداء السهال الذي انتقلت عدواه من أفواه بعض مغنيها إلى آذان معظم أبنائها. ودائماً وكثيراً ما أسأل أين نقاد الفن والغناء..؟ أين اتحادات الفنون والمقيمون عليها..؟ أما من أحد ينصت..؟ أما من أحد يسمع..؟ أيها السادة.. الفن الرفيع دائماً يخلق الذوق الرفيع، والذوق الرفيع دليل على وعي الأمة، وحصانتها من التفاهة والاحتقار.. وهذه الأجيال ليست قطعاناً من الكلاب الضالة..ولا «الجحوش» المهملة.. إنهم أبناء هذه الأمة..ولابد من الاعتلاء، والارتفاع بأذواقهم من حمّى الأغاني التي تفوح منها رائحة الدنس.. ومن الأجساد التي تمور في أكسية الرذيلة العارية.. حدثوا الفن كما تشاؤون، وطوروه كما تشاؤون، ولكن لا تخرجوه من دائرته إلى دائرة الرقاعة والابتذال.. لأننا في الواقع لم نعد نمتلك، إلا مثل هذه الرجاءات والتوسلات فنحن لا نملك شيئاً غير ذلك. إذ والله لو كان لنا من الأمر شيء، لأسقينا كثيراً من المطربين والقائمين على بعض القنوات ووسائل هذا اللون الرديء من الغناء أقول لسقيناهم كثيراً مما شربه ذلك المغني «علوية» فأرحنا واسترحنا.