نتائج الاستفتاء الأخير على التعديل في بعض مواد الدستور التركي، كانت محل احتفاء وتقدير لدى من يرى أن السلطة المدنية يجب أن تحرز تقدماً في عالم يتوق إلى نفض أشكال الوصاية من قوى العسكر على مفاصل السلطة المنتخبة. استطاع حزب العدالة والتنمية التركي أن يعيد صياغة المعادلة التركية السياسية، ويخوض معركة كسر العظم مع العسكر وصولًا إلى تقرير الاستفتاء الذي حقق نسبة 58% لصالح التعديلات التي اقترحتها الحكومة التركية. ولم يكن لحزب العدالة والتنمية ليدخل غمار معركة تعديل الدستور دون أن يحقق خلال مسيرته ما يمكن أن يلوح به من مكتسبات حققها لتركيا داخليا وخارجيا. دخل الحزب هذه المعركة بعد أن قدم أداء متفوقا وأثبت خلال تلك السنوات التي صعد فيها للحكم رغم كل محاولات التعطيل التي صنعها خصومه من العسكر أو من الأحزاب المعارضة قدرة كبيرة على حشد ما يكفي من أصوات الشعب التركي لمؤازرته في معركة التعديلات، التي تعد لدى كثير من المراقبين المختبر الذي ستنطلق منه تركيا لآفاق أوسع في مشروعها الداخلي والخارجي. لم يكن أداء الحزب انقلاباً على تراث أتاتورك العلماني، ولكنه كان تحولا ضروريا في أداء الدولة ومسار معالجاتها لقضايا الداخل والخارج. ولذا ليس من المستغرب أن يقول رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان" ليس خيالا أن يكون القرن الحادي والعشرون قرن تركيا، لكن هذا لا يتحقق إلا بتحديث تركيا من خلال التعديلات الدستورية التي تليق بها" . هل كان يمكن لتركيا أن تقدم حزب العدالة والتنمية ليحقق كل تلك النتائج الإيجابية لولا أن ثمة بنية سياسية وحراسة قضائية ودستورية جعلت من الصعب التأثير على بنيتها إلا بتفويض شعبي كما حدث في الاستفتاء الأخير؟ إنها رؤية تقوم على أن الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية يمكن أن تواصل إنجازاتها التي قدمت لها مشروعية كبيرة عبر تحقيق برنامج اقتصادي واجتماعي وثقافي وسياسي، استطاع أن يضع تركيا القرن الحادي والعشرين على سكة قطار التقدم الكبير، كما أن تعزيز السلطة المدنية المنتخبة وإقرار المزيد من الحقوق الفردية يعني الوصول إلى معايير ديمقراطية ستضع مزيدا من الحرج في طريق أوروبا المتحفظة على الانضمام التركي للاتحاد الأوربي الذي يعني الكثير لتركيا اقتصاديا وسياسيا. التعديل الدستوري جاء بعد مسيرة سياسية وضعت حكومة حزب العدالة والتنمية في مكان لا يمكن أن يتواصل تقدمه دون تلك التعديلات سواء في مستوى الداخل أو الخارج. داخلياً، لما حققه الحزب من انجازات بحاجة إلى تعزيزها، وخارجياً، لأن ثمة قناعة بأن بعض مواد الدستور الحالي لم يعد يتناسب وصعود النفوذ التركي إقليمياً ودولياً. النتائج الايجابية التي حققتها الحكومة داخليا وخارجيا مكنتها في وقت سابق من إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي وتقليص سلطاته التنفيذية، بما أدى إلى الحد من الدور الكبير للجيش في الحياة السياسية لصالح الحكومة المدنية، بعدما كان طوال العقود الماضية هو من يعطي الأوامر للحكومة على شكل توصيات ملزمة التنفيذ عبر مجلس الأمن القومي. وفضلا عن تحجيم نفوذ الجيش في الحياة السياسية، ظل الحزب الحاكم يسعى إلى الحد من سلطات جهاز القضاء وذلك من خلال تغيير بنية المحكمة الدستورية ومنع النائب العام من رفع دعوى حظر الأحزاب السياسية إلا بعد موافقة البرلمان. كما قدمت التعديلات الدستورية حزمة حقوقية ومنها مجموعة من الحقوق الجديدة للمواطنين كالتخفيف من القيود المفروضة على الحق في الإضراب والحق في التقدم بعريضة إلى المحكمة الدستورية. من منظور الحزب الحاكم وعلى لسان رئيس وزراء الحكومة "الرسالة من نتائج التصويت هي أن الشعب التركي قال نعم للعملية الديمقراطية، نعم للحرية، نعم لحكم العدالة بدلاً من النخب القابضة على العدالة". من يتأمل تحولات المشهد التركي، وهذه النتائج الباهرة التي تحققها الديمقراطية المدعومة شعبياً لتأكيد حضورها وقدرتها على مواجهة قضايا الداخل والخارج .. يعود به السؤال عن مشروع ديمقراطي متعثر ومزيف ومتراجع عربياً، أصبح اليوم نموذجا للتعطيل لا الانجاز، ونموذجا مهما توسل آليات الديمقراطية بعد عقود طويلة من الاستقلال وبناء الدولة الوطنية فهو لا يعدو أن يكون من أكثر النماذج في العالم تراجعا وإحباطا. العسكرتارية العربية لا يمكن مقارنتها بالعسكرتارية التركية التي لم تستأثر بالسلطة إلا عبر فترات قصيرة، كادت تركيا تذهب في رياح سياسات أحزاب يسارية وقومية متناحرة خلقت حالة من الفوضى، وربما أدت بمكتسبات الاتاتوركية. هل كانت حراسة المؤسسة العسكرية لتركيا العلمانية وتراثها الاتاتوركي مرحلة معتمة أم مهمة وضرورية قبل أن يشتد عود الديمقراطية ، وحتى تصل تركيا لوضعها اليوم الذي تُجسد فيه سلطات مدنية تطلعاتها لوضع تركيا في ركب التنمية والديمقراطية وفق المعايير الدولية لا معايير خاصة ومخادعة كما يحدث في المنطقة العربية؟ كما أن السؤال يأتي أيضا على هذا النحو: هل كانت تركيا ستواصل تقدمها بدون النظام الذي وضع أسسه أتاتورك وكانت المؤسسة العسكرية حارسا لأركانه؟ ألم تكن الديمقراطية التركية عرضة في مراحل هشة للسقوط في وحل صراع القوميات وأحزاب لم تحقق الكثير، ووضعت البلاد على شفير الفوضى والتراجع الاقتصادي والإنهاك الكبير؟ هل كان يمكن أن يأتي حزب العدالة والتنمية ليحقق كل هذه الانجازات الباهرة لولا انه تسلح بدعم شعبي كبير بما حققه من مشروعية الانجاز؟ من يرى نتائج الديمقراطية العراقية المتعثرة في قدرتها حتى على تشكيل حكومة توافقية منذ ستة أشهر، ومن يرى كيف تحولت الديمقراطية إلى محاصصة على معاول الطائفية والمكونات المتناحرة بعد أن ذابت الدولة في حضن الطائفة، ومن يرى سيطرة الأجهزة الأمنية على تفاصيل الحياة في بلدان عربية كثيرة لتحول دون تغييرات حقيقية وجوهرية تطال تطوير بنى الحياة السياسية وهي تراكم التخلف والتعثر حد العجز.. من يرى كل هذا ألا يقوده إلى سؤال هل نحن في مرحلة نحتاج فيها إلى أتاتورك عربي يعيد القطار إلى سكته الطبيعية ليأخذ مساره ويحرس قدرته على تحديد أهدافه؟ ليس بالضرورة أن يكون أتاتورك العربي مناهضا ومعاديا ورافضا لتراث وثقافة الأمة - كما كان الاتاتورك التركي في مطلع القرن الماضي - ولكن يكفي أن يكون قويا وقادرا على حراسة كيانات من السقوط الهش المبكر في أوحال الصراعات الحزبية والقومية والطائفية، وأن يكون قادرا على حراسة دستور إذا تعثرت الأحزاب عن تقديم حكومات قادرة على وضع الدولة على سكة قطار الإنجاز. هل كان يمكن لتركيا أن تصل اليوم إلى هذا المستوى في التعاطي الديمقراطي لولا أن هناك قيماً حافظت عليها، حتى لو تدخلت المؤسسة العسكرية لحراستها في ظروف كانت تحتم تدخلها؟ وهل كان يمكن لتركيا أن تقدم حزب العدالة والتنمية ليحقق كل تلك النتائج الايجابية لولا أن ثمة بنية سياسية وحراسة قضائية ودستورية جعلت من الصعب التأثير على بنيتها إلا بتفويض شعبي كما حدث في الاستفتاء الأخير؟ هل كنا بحاجة لأتاتورك عربي، ليعيد صياغة المشهد السياسي عبر دستور لا يمكن تجاوزه، وقوة تقوم على حراسته، حتى إذا استقامت بنية الأحزاب والقوى المدنية يضعها على محك الاختبار والتجريب لتأتي فقط بتفويض شعبي لا على قاطرة الغزو أو التحالفات المشبوهة. ربما كنا في مرحلة الحاجة لأتاتورك عربي وليس لدكتاتور عربي قبل أن نحلم بأننا يمكن أن نصنع مشهداً قريباً من المشهد التركي اليوم، حتى لو حصلت بعض الأحزاب العربية على رخصة حزب باسم العدالة والتنمية.