لأنني أعتقد بأن الدراما تحقق المتعة والفائدة وتثري الذائقة الجمالية ، فإنني لا أشاهد الدراما التلفازية العربية التي تقدم في رمضان ، لأنني عندها سأستبدل جميع المشاعر الجميلة التي من الممكن أن تمدني بها الدراما بمشاعر الغيظ والملل وسأتبادل مع المشاهد الدرامية الاستخفاف ، الذي تبادرنا به مسلسلات تفتقد في غالبيتها الصنعة الفنية واحترام ذائقة المتابع . استثنيت من ذلك مسلسلاً واحداً وهو مسلسل (القعقاع بن عمرو التميمي) لسببين الأول : لأنني قرأت حول الميزانية الضخمة التي رصدت لانتاج هذا المسلسل فتابعته لتوقعي بمشاهدة المبهر والآخاذ والمختلف في هذا الأمر ، والسبب الثاني أن المسلسل يغطي مرحلة حرجة وحساسة في التاريخ الإسلامي وهي مرحلة ( الفتنة) ، تلك المرحلة التي شقت تاريخ الإسلام طوليا وانقسم المسلمون بعدها مابين مصلّ خلف علي كرم الله وجهه ، وجالس على مائدة معاوية رضي الله عنه إلى يومنا الحاضر . بالنسبة للسبب الأول فلم يكن الاخراج بحجم التوقعات (هذا إذا قررنا أن نقارنه بالانتاج والإخراج العالمي) فهو مابرح يعاني من نفس الهنات والثغرات التي لاتفوت على المتابع العادي وليس الخبير المتخصص ، من غياب المهارات الإخراجية وركاكة المشاهد وعدم توظيف التقنية الحديثة التي تختطف المتابع من مواقعه وتجعله جزءا من الدراما لاسيما نحن في نفس العام الذي صدر فيه فيلم عالمي من نوعية(آفتار). أما فيما يتعلق بالسبب الثاني المتصل بالمعالجة الدرامية لتلك الفترة المكهربة من التاريخ والمحتشدة في كثير من مراحلها بالروايات والأخبار الموضوعة والمختلقة وذات الطابع السياسي الذي كان جزءا من الصراع آنذاك ، فأعتقد أن كاتب السيناريو قد نجح في عكس رؤية حيادية مستقلة يتخللها حوار متوازن وتدفعها أحداث تنتقل بين المدينةالمنورة والشام والعراق بحصص متساوية لم يطغَ فيها طرف ، بل كانت الحادثة التاريخية تدرج مصحوبة بمرآة تعكس جميع الوجوه بشفافية واستقلال قد لانجده حتى في كتب ومراجع التاريخ الشهيرة مثل الطبري وابن كثير . لم تغب في المسلسل هالة القداسة الدينية عن الصحابة أثناء الفتنة الكبرى ولكنه لم يغفل العامل البشري ودور الصراعات السياسية ، بالطبع اضطر كاتب السيناريو أن يغفل الكثير من الأحداث ويحجب الضوء عن بعض الشخصيات التي ساهمت في مقتل عثمان رضي الله عنه على سبيل المثال ، ولكن قد أعذره في هذا ، فالعالم العربي مازال محتقناً بالمناخ الطائفي بشكل مروع ، فعلى سبيل المثال كانت تمر بي أثناء متابعتي المسلسل بعض الشخصيات والأحداث التي أحتاج المزيد من المعلومات حولها فكنت أبحث إما في المراجع أو على الإنترنت ، وأثناء البحث كانت تصادفني مواقع يذهلني فيها كمية الاحتدام والشحن الطائفي في جنباتها ، وكأننا في ذلك الزمن السحيق عندما كان الصحابة يشتمون على المنابر ، ومن هنا من الممكن أن أقدر لماذا اختارالكاتب أن يمر مرورا طفيفا على بعض المواقع والأحداث ويستثني أخرى . حقق أيضا هذا المسلسل سبقاً على مستوى الدراما التاريخية عندما ظهرت فيه هيئة وأصوات الخلفاء الأربعة دون وجوههم ، وهو الأمر الذي أعطى المسلسل هالة من القداسة والاختلاف عن ماسبقه من المسلسلات التاريخية التي كانت تتجنب إظهار الصحابة الأربعة كون هذا محرما وفق فتوى ازهرية،فكان المشهد المهيب للهودج الذي يقل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أثناء معركة الجمل اقتحاما جليلا لتلافيف المخيلة ولكنه حتما لن يوازيها ، مشهد الهودج عندما نراه مجسدا أمام أعيننا بالتأكيد نعلم بأن الدراما العربية بدأت تسير في دروب لم تطرق سابقا ، ولا أدري ما المانع في هذا لاسيما ونحن نرى أحيانا في الدراما الإيرانية (والتي تنطلق من نفس التحرز الديني للدراما) ظهور العديد من الشخصيات الدينية والصحابة ولكن تخفي وجوههم بغلالة من ضوء . مسلسل القعقاع التميمي استطاع أن يمر بجوار أكثر المناطق حساسية في تاريخنا الإسلامي ، ويصنع له تميزا وسط ضوضاء الدراما الرمضانية..