تحتل أذربيجان موقعاً محورياً في المقاربات الدولية لإقليم القوقاز، بما هو جسر وصل بين آسيا وأوروبا، ومصدَراً للطاقة، وساحة اختبار لنمط كثيف من الرهانات الاجتماعية والسياسية والأمنية. يدرك الروس أن بناء علاقة وثيقة مع باكو دونه مقاربتهم الخاصة بالعلاقة مع أرمينيا؛حيث تعتبر هذه الأخيرة رأس الحربة الروسية في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. وفيها توجد أكبر قاعدة عسكرية روسية خارج البلاد ويدفع موقع أذربيجان الجغرافي باتجاه تعزيز مكانتها في الجيوبوليتيك الدولي، وخاصة لجهة كونها ممراً لخطوط الطاقة بين بحر قزوين وموانئ تركيا، حيث البحر الأبيض المتوسط. فضلاً عن كونها همزة وصل بين منطقتيْ قزوين والبحر الأسود. وأذربيجان دولة نفطية، يبلغ تعداد سكانها نحو ثمانية ملايين ومائتين وأربعين ألف نسمة، وفقاً لمؤشرات العام 2010. وفي العام الماضي، بلغ الناتج القومي الإجمالي للبلاد 85.77 مليار دولار. وكانت نسبة النمو فيه 9.3%.أما معدل دخل الفرد، وفقاً لمؤشرات العام ذاته، فقد بلغ عشرة آلاف وأربعمائة دولار. ومنذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي، في 30 آب/ أغسطس 1991، بدت أذربيجان محط أنظار القوى الدولية المتنافسة؛حيث دخل الغرب في سباق مع الروس لتأكيد حضوره في مشاريع الطاقة الأذرية. وخدمت تطورات التسعينيات الغرب على نحو لم يكن في الحسبان، إذ استطاع الجيش الأرمني، بمعاونة المليشيات الأرمنية في إقليم قرة باخ الأذربيجاني، من فرض سيطرته على مناطق أذربيجانية شاسعة، في عامي 1993 – 1994، واحتل أراضي يصل إجمالي مساحتها إلى أربعة عشر ألف كيلومتر مربع، هي عبارة عن إقليم قرة باخ وسبع قرى محيطة به. وذلك من أصل 86 ألف كيلومتر مربع هي كامل مساحة أذربيجان. ورأى الأذريون أن العدوان الأرمني لم يكن لينجح في تحقيق هذه المكاسب لولا الدعم العسكري، الذي قدمه حينها الرئيس الروسي بوريس يلتسين. عند هذا المنعطف، قررت أذربيجان أن تولي شطرها ناحية الغرب، مستفيدة من تقاطر الشركات الغربية على حقولها النفطية، ومستنفدة، في الوقت ذاته، روابطها الاستراتيجية والتاريخية الوثيقة مع تركيا. كان عقد التسعينيات هو عقد التحولات الكبرى بالنسبة لكافة دول المنطقة. وكان ذلك شديداً في تجلياته بالنسبة لأذربيجان. بعد عقد من الزمن، أو نحو ذلك، بدت أذربيجان وكأنها تقف في منتصف الطريق بين روسيا والغرب. من ناحيتها، أدركت موسكو أن مصالحها الجيوسياسية في المنطقة لا تستقيم من دون ترميم علاقاتها مع الدولة الأذرية، التي تعاظم دورها في قضايا الطاقة، مع تشييد خط باكو – جيهان النفطي. وتزايد مع تأكيد أوروبا على المضي قدماً في بناء خط نابوكو، لنقل الغاز من آسيا الوسطى والشرق الأوسط إلى الأسواق الأوروبية. يضاف إلى ذلك، أن الروس استشعروا خطر تطور علاقات باكو بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تزايدت حاجته لأذربيجان على خلفية الحرب في أفغانستان، وحرب جورجيا، والوضع في منطقة البحر الأسود. والأكثر من ذلك، ثمة تقارير تحدثت أكثر من مرة عن احتمال استضافة أذربيجان لقواعد أو تسهيلات عسكرية أميركية. وهو الأمر الذي يجري نفيه على نحو دائم من قبل الطرفين. وفوق ذلك كله، أن أذربيجان، وبموازاة تحالفها الاستراتيجي مع تركيا (الوطن الأم للقومية الأذرية) دخلت في السنوات الأخيرة في علاقاتت وثيقة مع طهران، عمدتها بعدد من المشاريع الاقتصادية بعيدة المدى، التي تجعل من انفكاك عرى الروابط بين الدولتين أمراً صعباً، بل لا يمكن تصوّره. وقد جرت قراءة هذا التطوّر في موسكو على أنه تعزيز لدور قوة إقليمية منافسة، حتى وإن تم وصفها بالصديق أو الحليف.ولقد مثل هذا الأمر سبباً إضافياً لروسيا للسير باتجاه ترميم روابطها بأذربيجان. وعلى الرغم من كل المحفزات سابقة الذكر، يدرك الروس أن بناء علاقة وثيقة مع باكو دونه مقاربتهم الخاصة بالعلاقة مع أرمينيا؛حيث تعتبر هذه الأخيرة رأس الحربة الروسية في منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى. وفيها توجد أكبر قاعدة عسكرية روسية خارج البلاد، يخدم فيها آلاف الجنود، وتضم أسلحة جوية وبرية متقدمة. وبطبيعة الحال، يدرك الأذريون بدورهم مكانة العلاقات الروسية - الأرمنية في حسابات روسيا الجيوسياسية.ولذا لم يبادر بينهما من يدعو لإنهاء هذه العلاقات كشرط لإعادة تجسير الروابط بموسكو. هذه معادلة معقدة بالنسبة للطرفين الروسي - الأذري. وأية مقاربة للعلاقات بينهما لابد أن تنظر إليها على نحو من التوازن.أو لنقل من الواقعية السياسية وتوازن المصالح. وأياً يكن الأمر، فقد تحرك الروس، منذ بضع سنين، لإعادة بناء العلاقة مع الجار الأذري. وفي الثالث من أيلول/ سبتمبر الجاري، وقع الرئيس الروسي، دميتري ميدفيديف، ونظيره الأذربيجاني إلهام علييف، في باكو، اتفاقية حول ترسيم الحدود بين البلدين. واتفاقية أخرى حول استخدام مياه نهر سامور الحدودي. وبهذه الخطوة، أصبحت روسيا أول دولة توقع معاهدة حدود مع أذربيجان. وفي مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الروسي، قال الرئيس علييف إن روسيا ستزيد من حجم الغاز الأذري المستورد بمعدل أربعة أضعاف. وذلك بالمقارنة مع الحجم المتفق عليه في الفترة السابقة.وتحديداً، سوف تستورد روسيا ابتداء من العام 2011 ملياريْ متر مكعب من الغاز الأذري سنوياً، وسوف تتجاوز هذه الكمية المليارين اعتباراً من عام 2012. من جهة أخرى، قال بعض المحللين الروس، إن الرئيس ميدفيديف حاول خلال زيارته الأخيرة إلى أذربيجان إزالة القلق الذي انتاب الأذريين بسبب الاتفاقية الأمنية الجديدة، التي وقعت أخيراً بين روسيا وأرمينيا. كذلك، تحدثت تقارير روسية عن إمكانية موافقة روسيا على طلب أذربيجان الخاص بالحصول على أنظمة دفاع جوي متوسطة المدى من طراز (S - 300). وفي حال تأكدت هذه التقارير، فسوف يشكل ذلك خطوة مهمة، وفي الاتجاه الصحيح تماماً، على طريق خلق نوع من التوازن في السياسة الروسية في القوقاز. وتحديداً لجهة مقاربة العلاقة بكل من أرمينيا وأذربيجان. وفي سياق مواز، تحدثت تقارير روسية أخرى عن إمكانية تحديث موسكو لمقاتلات (MIG - 29) الأذرية، التي اقتنتها باكو من أوكرانيا. تجدر الإشارة هنا إلى أن مئات العسكريين الروس يرابطون منذ سنوات عديدة في أذربيجان، حيث تقع محطة "داريال" للإنذار من الهجمات الصاروخية. إذ يخدم في هذه المحطة، الواقعة في بلدة غابالا، 923 عسكرياً روسياً، بالإضافة إلى 234 خبيراً مدنياً، نصفهم تقريباً من السكان الأذريين. وكانت تقارير قد ذكرت بأن أذربيجان قد ترفض تمديد استئجار روسيا لمحطة غابالا، بعد العام 2012، وتتجه لتسليمها كاملة لقوات أميركية أو أطلسية.إلا أن السلطات الأذرية نفت هذه التقارير. وعلى الرغم من كونها صديقة للغرب، لم تدخل أذربيجان، في أي وقت من الأوقات، في عداء مع الروس. وما يمكن قوله خلاصة، هو أن نجاح الروس في إعادة بناء علاقاتهم مع أذربيجان سوف يعني بالنسبة لهم نجاحاً جيوسياسياً، يصعب حصر ثماره بعيدة المدى. ولعل التحسن الراهن في العلاقات الروسية - الغربية يمثل فرصة إضافية لروسيا للمضي قدماً على طريق إعادة حضورها في أذربيجان، التي يسعى كافة الفرقاء لخطب ودها..