ما الذي يمكن أن يقال بعد رحيل الإنسان والأديب والشاعر والمفكر والسياسي والدبلوماسي والوزير الدكتور غازي القصيبي؟ لقد كان فقيد الوطن أمة في رجل اجتمعت فيه صفات عدة طرزها باهتمامه الأدبي والثقافي حتى أصبح رمزا من رموز الأدب برغم انشغاله الدبلوماسي والوزاري طيلة العقود الماضية، أما حياته العملية في الإدارة فقد مزجها بأدبياته العالية من خلال تمكنه من الرواية وشعره الصادق والذي رسم له مسارا خاصا به. لقد أبدع الفقيد رحمه الله في السلك الدبلوماسي سفيرا للملكة في البحرين ثم بريطانيا التي مكث بها زمنا ولم تشغله المناصب عن متابعة اهتماماته الثقافية والأدبية ففي كل مراحل العطاء كان بحرا زاخرا، وهو ما يؤكد عظمته، وكان الحرف بالنسبة له معين الحياة، فقد كتب وهو على السرير الأبيض القصائد والرسائل وكان دائم الاهتمام بأحبابه أينما حلوا أو ارتحلوا. أبو يارا رحمه الله كان قامة وطنية استطاعت رغم كل العقبات أن تضبط وتنظم قضايا العمل والعمال، وأثبت مع مرور الأيام صحة توجهاته وقراراته فحث ومارس ضغوطا على الشركات لدعم توظيف السعوديين والسعوديات، وضمان الحوافز لدعم إقبال السعوديين على العمل في القطاع الخاص، ونقل وتوفير التقنية الحديثة وتدريب السعوديين عليها، ومن ذلك فتح معاهد تقنية من أجل التدريب والتأهيل، وتحفيز الشركات على تركيز توظيف السعوديين في المناطق النائية للحد من الهجرة من القرى للمدن، وكذلك إعطاء حوافز لمن يحقق نسبة سعودة عالية. ولأنه كان وطنيا حتى النخاع أولى أهمية كبرى للتدريب، فقد أدرك بعقله المستنير وقلبه المحبّ لوطنه أن الشباب المتعلم والمؤهَّل للاضطلاع بمسؤولياته هم محرك التنمية وقاطرة الازدهار والأمن والاستقرار، ولقد ترك رحمه الله إرثا عظيما كوزير للعمل، وكان بمثابة المهندس المعماري الذي يرى التحديات ويبحث عن الفرص، ويحرص دائماً على تقديم أفضل الحلول العملية الممكنة لإحداث تغيير جذري في سوق العمل، كما كان رحمه الله الداعم الأول لعمل المرأة وكان يحرص دائماً على خلق فرص وظيفية للمرأة السعودية. الشفافية الكبيرة التي كان عليها الفقيد وتحمله النقد الذي كان يتجاوز الحدود أحياناً، ربما لم يحدث مع وزير قبله، وكان تعامله هو مع ذلك قمة في الخلق الحسن حيث كان يتحمل الأذى ويرد على منتقديه بكل شفافية ولا يضيق بنقدهم. أما في حياته الخاصة فكان أديباً ومسؤولاً وبعيداً عن حياة الترف والسهر، يذهب إلى فراشه باكرا، وكان لا يسهر الليل ويعتذر عن دعوات الأصدقاء حين تتعارض مع موعد خلوده إلى النوم. كما جمع رحمه الله بين موقعه الرسمي، ومكانته الشعبية، ولم يفقد أياً من الموقعين، أو يضحي به على حساب الآخر. بماذا إذن أختم هذا المقال الذي لا تنتهي كلماته؟.. ربما لن أجد أفضل من شعر فقيدنا نفسه عندما تحدث عن موت الأحبة: عندما يرحل واحد من صحبنا يموت بعض قلبنا ثم نعود بعد أن يجف دمعنا لدربنا للضجر اليومي والرغبة والإعياء وفجأة في دفتر الهاتف يطفو اسمه أمامنا ونلمح الرقم على الصفحة مغمورا بماضي حبنا وباليد المرتجفة نشطب رقم الهاتف الصامت من دفترنا المسكون بالضجة والأحياء نودعه ذاكرة الأشياء وفجأة نذرف دمعتين لأننا ندفن من نحب مرتين لكننا نعدك يا أبا يارا أننا لن نشطب اسمك من ذاكرة هواتفنا، ولا من قلوبنا، وحتى عندما نعود لحياتنا لن ننساك وسط الزحام، ومشاكل حياتنا العادية.. سنظل نتذكرك قامة وطنية تعلو فيها قيم الإنسانية والأخلاق.