من أعظم نعم الله علي - وهي أكثر من أن تعد وتحصى - شرف المشاركة مع زملائي دبلوماسيي الدول الإسلامية في غسيل الكعبة المشرفة زادها الله تعظيما وتشريفاً وتكريما. هذه المناسبة بدون شك من أحب وأسعد الفعاليات التي يتطلع إليها أعضاء السلك الدبلوماسي في المملكة لما تمثله من فرصة نادرة للصلاة والدعاء داخل الكعبة المشرفة والعيش فيها ولو للحظات فريدة لما فيها من معان ومشاعر يصعب علي وصفها. من أجل ذلك ترددت كثيراً في الكتابة عنها وتمنيت لو أني كنت شاعراً يجيد نظم الشعر وتحويل الأحاسيس إلى أبيات شعر تهز الوجدان، أو أديبا محنكاً يصيغ العبارات الرصينة لتنقل شيئاً من اجتياح المشاعر التي تأتي كأمواج البحر المتلاطمة ولا تلبث أن تتلاشى واحدة إلا لتفسح المجال للأخرى. لكني لست هذا ولا ذاك، وأين أنا مع قلة بضاعتي من تلك القدرات الأدبية التي تمكنني من التعبير عن جمال تلك اللحظات والأحاسيس والمشاعر التي جالت في نفسي. لكني ومع ذلك وبعد كثير من التردد توكلت على الله وأخذت في الكتابة عن تجربة العمرة التي أديتها ثم بعض الخواطر عن غسيل الكعبة، واستميح القارئ عذراً عن التقصير ولا حول ولا قوة إلا بالله. وأول ما أحسست به عند دخولي الحرم المكي هو شعور عجيب بالجاذبية تجاه الكعبة المشرفة، شعور يصعب وصفه، شعور أشبه ما يكون بحالة انعدام الوزن مثل قطعة حديد صغيرة تجذبها قوة مغناطيس كبير أو مثل جرم صغير يسبح في فضاء الله الواسع وفجأة يدخل في مجال جاذبية نجم عظيم فيشده إليه ولا يملك إلا أن يبدأ بالدوران حوله، وتبدأ بالطواف وينتابك شعور بالذوبان في حشد الناس الذين سبقوك بالطواف حول الكعبة بسلام آمنين، تنسى نفسك وتصبح جزءا في خضم الزحام ولا تملك حينها إلا أن تتذكر يوم الحشر وقيام الناس لرب العالمين. وتختلس لحظة لكي تتطلع في الوجوه من حولك كل إنسان وحاجته وسؤاله وهو يشعر أن المكان له وحده من دون منافس. فيهم الكبير الطاعن في السن الذي حنى الزمان ظهره، والصغير الذي بهره المكان عن أي شيء آخر، كما ترى الرجال مع النساء ومن جميع أجناس البشر وأشكالهم، صورة مليئة بالمعاني والألوان، وتتذكر وأنت جزء من هذه الصورة حالة البشرية التي تمزقها الصراعات العرقية والطائفية ولا تمتلك إلا أن تأخذك الحسرة على حاجة البشرية لفهم واستيعاب هذا الموقف وهذه المعاني التي تجمع الناس بكل أطيافهم التي خلقهم الله عليها فلا تمييز ولا حواجز بين صغير وكبير، غني أو فقير، رجل أو امرأة. وتستمر حالة فقدان الذات فتطوف شوطاً وثانياً وثالثاً وما تلبث إلا وأنهيت الأشواط السبعة وتود أن تستمر في الطواف لشعورك بالطمأنينة ولصعوبة مقاومة قوة الجذب التي تستشعرها باتجاه المكان وفقدان الإحساس بالزمان. ثم تقف للصلاة في مقام إبراهيم وتفكر بأعداد المسلمين الذين توجهوا للصلاة جهة البيت في شتى بقاع العالم. وهذه الحقيقة تعطيك درساً في دور الكعبة في توحيد وجهة المسلمين أينما وجدوا، فأيقنت بأهمية الهدف المركزي في حياة الأمم، ذلك الهدف الذي يجذبنا فيجعلنا ندور حوله ونتوجه إليه دائماً. فتصبح حياة الأمة وكذلك الأفراد سعياً دائماً للوصول إلى الغايات، تكل الدنيا ولا يكلون حتى ينال كل واحد منهم ما يريد أو يهلك وهو يحاول الوصول. تعد هذه المركزية في الأهداف من أهم مقومات نجاح الإنسان في الحياة لكونها تمثل الفرق الأساسي بين إنسان يعيش حياة مليئة بالسعادة والإنجازات وآخر يعيش حياة هائمة لا يدري من أين بدأت وإلى أين تنتهي. ولقد أدرك السلف الصالح قيمة الأهداف في حياتهم فاتخذ كل واحد منهم له هدفاً يجعله شاهداً له عند ربه، وهذا يفسر سر النجاح الكبير الذي حققوه في حياتهم حتى صاروا سادة الدنيا. ولقد كان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه - والذي يعد من الخلفاء الراشدين - من أفضل الأمثلة على ذلك حتى وصفه التابعي الجليل الحسن البصري رضي الله عنه بقوله "لم يخطُ عمر خطوة إلا وله فيها نية". فالخطوة إذاً يجب أن يكون لها مقصد ويجب أن تؤدي إلى هدف محدد. يأتي بعد ذلك دخول الكعبة والتي هي عبارة عن بناء مربع أو يقترب من ذلك له باب واحد تغطيه من الخارج كسوة سوداء مطرزة بخيوط من الذهب ومن الداخل عبارة عن بناء من الحجر الذي يغطي الأرضية والجدران إلى ارتفاع معين وتغطي باقي الجدران إلى السقف الكسوة الخضراء الداخلية المصنوعة من الحرير مثل الخارجية مع اختلاف اللون فقط. وفي الوسط عمودان ومبخرة يوضع فيها البخور. بناء ليس كالقصور أو المباني والمعالم المشهورة التي يشد الناس لها الرحال حيث أنها في غاية البساطة. وهذه البساطة بحد ذاتها مقصودة، إذ أن المسلم حين يشد الرحال إلى الكعبة لا يذهب لمشاهدة صرح عظيم يذهب بالأبصار وإنما هو بناء بسيط يقصده الإنسان طاعة لربه الذي أمره أن يزوره "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" (الحج 26-28). والله سبحانه الذي خلق السموات والأرض وجعل في الأرض جنات من أعناب ونخيل وأنهار، اختار وادي مكة مكانا لبيته العتيق، وهو واد غير ذي زرع، صخري شديد الوعورة ولا يمتلك شيئا من مقومات الجمال الطبيعي التي يمكن أن تجذب الناس لها. كان من الممكن أن يختار الله مكاناً آخر أجمل منه طبيعة ومنظراً ويجعل فيه الأنهار والبحيرات والأشجار الباسقة ويجعل من مكان البيت نموذجا لجنات النعيم، ولكنه اختار هذا الوادي الصخري الذي لا ينبت فيه زرع ولا يحيا فيه ضرع "وربك يخلق ما يشاء ويختار". والحكمة من وراء اختيار مكة لا نعلمها ولا يعلمها إلا الله، ولكن يمكن أن نأخذ منها بعض المعاني والدروس، ومنها أهمية الاهتمام بالغايات قبل الوسائل، فإذا أردنا أن نبني بناء أو نؤسس شيئا فعلينا أن نهتم بالجودة قبل الشكل وبالجوهر قبل المظهر. وفي هذا درس لنا في بناء بيوتنا، فكم منا من يقضي السنين في بناء البيوت التي تشبه الصروح ولا تراه يجد ساعة يقيضها مع زوجه وأولاده يجلسون فيها لحديث عائلي. أو لسنا نبني البيوت ونهدم الروابط بين الأسر؟ وأيهما أهم للأولاد والأزواج يا ترى؟ البيت المبني من الحديد والحجر أم بيت من الطين تملأه أواصر الحب والألفة؟ ومن الأمور التي تشدك إلى الكعبة البساطة في البناء، الشعائر وكل شيء آخر، ذلك أن البساطة دليل المصداقية، فالكعبة في أسلوب بنائها وفي اختيار الموقع الذي بنيت فيه لا تراعي إلا المهمة الأساسية التي جعل البيت الحرام من أجلها، ولأن المهمة معروفة وبسيطة جاء البناء في غاية البساطة، وهذه في مسألة الكعبة وبنائها علامة من علامات التوحيد وصدق الرسالة. ذلك أن أي إنسان إذا أراد أن يبني صرحاً يزوره الناس ويأتونه من كل بقاع الأرض فلا شك بأن تصميمه سوف يكون على شكل مغاير للكعبة، فيه من التعقيد والتشكيل ومظاهر الأبهة في العمران مثل جنائن بابل المعلقة أو أهرامات الفراعنة أو تاج محل أو ما شابه ذلك من الصروح التي بناها البشر وطوروها لكي ينجذب إليها الناس. وكلنا نعرف القصة المعروفة عن أبرهة الذي أراد أن يبني بنيانا يصرف به الناس عن زيارة الكعبة فأنشأ صرحا عظيما وجعل فيه من الأشكال والألوان والعمران ما يجذب اهتمام الناس، بنى صرحاً يبهر الأبصار وأهمل القلوب، اهتم بالتفاصيل والمظهر وأهمل الجوهر. ولذلك انصرف الناس عنه وعن صرحه وتوجهوا نحو الكعبة على بساطتها ولأنها أسست على ركائز الإيمان قبل أسس الحجارة. وخلاصة القول فإن بساطة بناء الكعبة دليل على صدق الرسالة لأن هنالك علاقة بين البساطة في الأمور ودلالتها على المصداقية. إننا نعيش اليوم في عالم مليء بالتعقيدات والطقوس التي لا نعرف من أين أتت ولم جاءت، عالم يمتاز بالسرعة التي حرمت الناس فرصة الوقوف والتأمل فأصبحت البشرية اليوم ترضى بالقشور وتكتفي بالمظاهر لأنها لا تمتلك الوقت لكي تبحث فيما وراء المظهر. من أجل ذلك فقدت الأشياء دورها أو على الأقل انحرفت عن أداء الدور المنوط بها. فلم تعد العلاقات الإنسانية مبنية على أسس إنسانية الإنسان، ولم يعد للمشاعر مكان أمام المربح المادي، وتحول الإنسان إلى آلة إنتاج واستهلاك لا غير. من أجل ذلك فقدت الحياة طعمها وأصبحت بلا طعم مثل وجبة سريعة جاهزة يلتهمها الإنسان على عجل. أجل لقد فقدت الحياة الكثير من لذتها عندما فقدت عنصر البساطة وتخلت بذلك عن قيم الجمال ومالت ميلا شديدا إلى التعقيد ونسيان الغايات. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى أن نتعلم من الكعبة وبنائها البسيط وأن نستوحي سبل إعادة الروح إلى حياتنا التي ملأناها بالتعقيد وانحرفت عن غايتها فأصبحت لباساً لا يصلح لبني البشر. وفي الختام أشعر بأن ما كتبت لم يعط التجربة حقها، ولكني بذلت جهدي في نقل شيء عن الصورة، وأعتذر للقارئ عن القصور. كما أني أنتهز هذه الفرصة لأتقدم بوافر الشكر لكل من ساهم في توفير أجواء هذه الزيارة الميمونة وجميع الساهرين على شؤون الحجاج والمعتمرين بدءا من أولئك الذين يسهرون ليلهم ويقضون نهارهم في إدامة وصيانة الحرمين المكي والمدني وجميع العاملين فيهما والمسؤولين في هيئة الحرمين الشريفين وكادر وزارة الخارجية على ترتيبهم الزيارة والشكر قبل ذلك موصول لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده ونائبه الثاني وأمير مكة، ولا نملك إلا أن نقول لهم جميعا جزاكم الله عنا وعن المسلمين خيرا. * سفير جمهورية العراق في الرياض