لعل أدب الرحلات في ثقافة العراق ما بين قرني التحديث: التاسع عشر والعشرين، هو الحلقة الضعيفة في نص الريادة، فلن نجد في الكتب التي دونها المتأدبون المسلمون، ما يقدح فكرة التثاقف بين الأماكن، على عكس مافعله اللبنانيون والمصريون. ولكن من يطلّع على كتاب الرحالة البغدادية ماري تيريز أسمر "أميرة بابلية" الذي وضعته في أربعينيات القرن التاسع عشر، سيعثر على كنز من الحكايا، كلها تقوم على هذه الفكرة. بحثت أمل بورتر التشكيلية والكاتبة العراقية، عن هذه المذكرات في المكتبة البريطانية، وترجمتها وحررتها ونشرتها عن دار الجمل. لماري تيريز أسمر في كتابها هذا حق الريادة، لا لكونها فقط امرأة مرتحلة في عراق كان خارج جغرافيا التحضّر، والتحضر كمفهوم يبنى على فكرة الارتحال والتنافذ، بل لأن الرجال الرحالة انفسهم لم يذهبوا بعيدا إلى الغرب، ولم يملكوا قدرتها على تدوين نص ينطوي على حس مكثف بالمكان والزمان. قلة من كتب الرحلات تشبه هذا الكتاب في جاذبيته، فكاتبته حسبما تذكر المترجمة، كتبته بلغة تكاد تكون معاصرة، وفي سرد أحداثه وصوره، يشد القارىء إلى عالم يقع خلف الذاكرة البعيدة للعراق المضطرب والمتنازع عليه، بيد أن هذا النص يمنحنا فرصة أن نكون على مقربة من المنبع الثر لمدينة الليالي العربية، متمثلة بساردة من أكثر النساء تعلقا بالعراق. رحلت ماري تيريز عن الموصل التي أقامت فيها عائلتها هربا من طاعون بغداد، وبحجة عثور والدها على كنز في خرائب نينوى، نكّل الوالي العثماني به وبالرجال من عائلتها، واستولى على ثروتهم. غدت امرأة وحيدة ، وقصدت قبيلة بدوية تقطع ضفاف الفرات بين بغداد والحلة، فعاشت تحت حماية شيخها دريع الشعلان وترحيب زوجاته وعشيرته. الرحلة الثانية كانت إلى القدس ثم الفاتيكان، مرورا بالشام وجبال لبنان وصولا إلى الغرب، ايطاليا وفرنسا، لتستقر ماري تيريز أسمر في انكلترا التي تدوّن فيها يوميات كل تلك الرحلات. يقوم تكوين نصها على فكرة التداخل في سرديات السفر الطويل بين الفضول والحنين، وما ينبثق عنهما من أفعال المقارنة في الطباع والأماكن، ولن يخرج العراق أو الشرق من تلك المقارنات، سوى بقصب السبق، ولكنها لا تهمل الإشارة الى تطور الغرب ومنجزاته العلمية. استطاعت أمل بروتر صقل النصوص التي تقع في مجلدين، منقحة ومختصرة الزوائد، لتخرج منها بكتاب ممتع ومفيد، ولكنه قبل هذا درس في ملامسة مفهوم الاغتراب: قلق المرتحل، نظرة الانفصال والاندماج، التعلق بالوطن الأول. ماري تيريز كلدانية من بيت ثراء ببغداد، وتصف بيت والدها وحدائقهم المجاورة لحدائق الآغا العصملي، جارهم الذي لا يقبل الاحتكاك بالمسيحيين. ورغم العذاب الذي عانته من الأتراك والمتعصبين في كل مكان مرت به، غير ان تلك المواقف لم تدفعها الى حس الانتقام وهي تدون مشاهداتها. كانت تحلم بحياة الراهبات والانقطاع إلى التعبد، بعد الصدمة التي تعرضت لها، قادتها قدماها إلى أماكن قصية، ولعل درسها الديني وثقافتها المتعددة وإجادتها لغات مختلفة، ساعدتها الاتصال بعلية القوم في الأماكن التي مرت بها، ولكنها بقيت تحتفظ لبدو العراق وبسطاء الناس بأجمل المشاعر، فقد صدمت بالغرب الذي حلمت بالوصول اليه، باعتباره موطن المجاهرة بالمسيحية، وعاقها طبعها الشرقي من القبول بقيمه ، وخاصة قيم الطبقة الارستقراطية. كانت تقيس تصرف البارونات والدوقات وصاحبات النفوذ بتصرف البدويات وصاحبات الخدور من نساء الشرق البسيطات، فتجد في طباع التكلف والاستحواذ ما يؤجج حنينها إلى الوطن والعيش مع البدو ونساء الحريم! حصلت على مجوهرات من الألماس والأحجار الكريمة من زوجات شيوخ البدو، وقبلت بعد تردد ومشاورة الذات، فمعرفتها بمصادر تلك المجوهرات، كان يناقض قيمها وتدينها، غير انها تصفهم ب" أولاد الصحراء" "أودّعكم يا أصحاب القلوب البسيطة، يا أولاد الصحراء! أودّعكم وأترك خلفي فضائل عميمة وكثيرة ولن أجد مثلها مستقبلا في أماكن أناس متحضرين. في مجال الخير والضيافة من يساويكم من البشر؟ في مجال واجبات الصداقة؟". ورغم انها تعرضت مرات مع القوافل التي تصحبها الى هجمات البدو حيث نهبوا مجوهراتها ونقودها، غير أنها تجد في تلك الطباع دفاعا عن الحياة. وسنجد في كتابها معلومات عن عادات وطقوس وأفراح واحزان البدو، كما تدون نوطة لاغنية بدوية مع كلماتها. وهكذا بمقدورنا أن نجد في هذا النص ما لا نجده في كتب الرحالة والانثربولوجيين الغربيين، فهي عاشقة للطبيعة وكائناتها، ومتأثرة بثقافة التنوير التي ترى في الشرق منبع البراءة والفطرة الأولى، وقبل كل هذا تتوفر كتابتها على حس بالانتماء الى العراق مع شعور مكثف بما قاسته من عذاب. في رحلتها الطويلة توقفت ماري تيريز ببلاد الشام، والتقت التجار والموسرين، وعاشت حياة العز في قصورهم بدمشق وحلب، وهي تصف جمال الشاميات وطباع الأنس التي يظهرنها في الحمامات، كما تتوقف أمام الريازة والذوق الرفيع في ترتيب الحدائق والنافورات. لعل الفصل الذي تنتقل فيه بين دمشق وجبال لبنان في بيوت الاغوات وبيت الأمير بشير الشهابي، أشبه بفصول ألف ليلة وليلة، ويخيل لمن يقرأ هذه الكتاب أن تلك الأماكن الساحرة، استلت من كتاب الليالي، فالدعوات الباذخة، وطريقة العيش والملابس والمجوهرات والطنافس، وترتيب الغرف والمشربيات كلها تنطق بعبق الشرق ومذاقه المشبع بالمتعة الحسية والروحية. تصف الكاتبة الحمام الشرقي النسائي، الذي دخلته بدمشق فوجدت نفسها غريبة بين عالم " النساء الشقراوات" كما تسمي مرتاداته " وما أن عرفن من أكون حتى تجمعن حولي يسألن آلاف الأسئلة، قلت لهن انني من بغداد وأخذن يستفسرن عن نساء بغداد: ما يرتدين وما مظهرهن؟ وكيف يتسلين؟ قصيرات أم طويلات، شقراوات سمراوات نحيفات بدينات؟" لا ترى المؤلفة في تلك الأماكن ما يعكر صفو علاقة أولئك النسوة بالعالم، فالنعيم الذي يتمتعن به يحجب دموع الغيرة والتنافس وايقاع الأيام الرتيب، وحتى التجاوز على الحقوق. إنهن بعين ماري تيريز، مثل أميرات متوجات على عرش الجمال والمتعة. وحالما تصل روما تكتشف عالما جديدا تعيشه النساء: " شابات جميلات مرحات كلهن بلا نقاب يعرضن سحرهن على الملأ بلا خوف أو خجل. عليّ الإقرار بأن الظرف الأخير سبب لي صدمة في البداية. وأعتقد ان الواقع صوّر لي الكثير من قلة الاحتشام والدلال الانثوي، ولكن بعد أن تمعنت وفكرت قلت يا لسعادتهن" . قضت رحلة البحر بأمواجه العاصفة على أمل عودة ماري تيريز أسمر، فقد انهك صحتها السفر الطويل والمخاطر، فكتبت هذا العمل كي تستعيد أيامها الخوالي بعد ان عانت الغربة والنفي في بلاد بعيدة.