عندما انغرس الخنجر الإسرائيلي في خاصرة الجسد العربي كان هزيلا عليلا بعد قرون من الركود الحضاري وغياب شمس التمدن عنه , و لم يكن يمتلك تلك الهمة أوذلك النشاط الذي يخوله للصراع والمقاومة , وأجهضت الكثير من المشاريع النهضوية وقتها على حساب المؤسسة العسكرية العربية التي تصدت للمقاومة , لكنها ملأت العالم صخبا وضوضاء ولم تستطع أن تحقق نصرا ولو صغيرا على أرض الواقع لأنها ببساطة تقع ضمن حالة تخلف حضاري شاملة ولا قِبل لها بالحرب والمواجهة . وابتدأ صراع التيارات الفكرية منذ ذلك الحين هل نضع الحصان أمام العربة أو العربة أمام الحصان ، أي ببساطة هل ينشغل العالم العربي بعملية تجييش كبرى والدخول في حالة حرب ومواجهة عسكرية مع الكيان الصهيوني ، وهي المواجهات التي اثبتت فشلها منذ عام 48 إلى 2006 نتيجة لحالة تخلف شاملة بينما الخيار الآخر هو أن ينشغل العالم العربي بحروبه الداخلية على مستوى آخر ضد التخلف والفقر والفساد وجميع الأمراض التي تنهض في وجه مسيرته التنموية وتقدمه الحضاري وبالتالي قدرته على المقاومة؟ لو اخترنا الانغمار في حلم باهظ ,وتوغلنا في أرض الفانتازيا ,ورسمنا صورة للعالم العربي دون وجود إسرائيل ، دون أن يُستزرع هذا الكيان بشكل مقتحم للزمان ومتحدّ للمكان , ماالذي سنشاهده ؟ هل عندها ستستطيع الشعوب العربية أن تنهض من كبوتها وتجد لها حيزا في قطار الحضارة ، هل سينجح مشروع النهضة العربي الذي تبرعم في بواكير القرن الماضي وسرعان ماتفتت واضمحل ؟ وقتها هل كان المشروع النهضوي سيحتاج إلى مظلة أيدلوجية يمرر من خلالها بنود مشروعه ، أم انه سيكتفي بالمنجز الحضاري ليحصل على المشروعية والقبول الجماهيري ؟ إسرائيل ليست فقط كيانا غاصبا ومحتلا في المنطقة , بل إن وجودها عسكر العالم العربي وكرّس حالة من التخلف تبدت عبر عدة مظاهر أبرزها الجمهوريات العسكرية الشمولية التي انغمرت بضبط الأمن والمحافظة على البنى الفكرية العتيقة كشرط يحفظ للكيانات السياسية المتخلفة ديمومتها وبقاءها . ومع ديكتاتورية القومية وتقلص اتباعها وفشل مشروعها الوحدوي , ظهرت التيارات السياسية المؤسلمة بخطاب رغبوي متشنج يميل إلى العنف والاقصاء واستئصال المختلف دون أن يكون هناك برامج نهضوية تعالج الواقع الحضاري المتدهور . ولم يعد الصراع العربي - الإسرائيلي مواجهة بل تحول إلى (حالة) تندرج تحتها المزايدات والمقايضات والأكروبات السياسية الإقليمية والدولية , ووسيلة لاستقطاب الشارع والمريدين واللعب على عواطفهم عبر الشعارات والخطب المتشنجة . لو انغمرنا في المزيد من الحلم بتخيل العالم العربي دون إسرائيل , هل كنا بعد خروج الاستعمار سنستطيع أن ننهض بحلم مشترك ينبض بقلب العالم القديم ومهد الحضارات ؟ هل كان العالم العربي وقتها سيقفز قفزات حضارية مثل اليابان وكوريا وحاليا تركيا ؟ هل كان وقتها سيبلور مفهوما عن القومية العربية قائما على التكامل الاقتصادي والثقافي دون العنتريات الخطابية والانكشارية ؟ هل سيكون العالم العربي بدون مآتم ولطم ونواح موسمي ومناسباتي ؟ هل كانت الأجيال العربية وقتها ستنهض وهي مليئة بالزهو والفخر للمنجز المعرفي والانساني ؟ أسئلة كثيرة لكنها لن تجد مصداقيتها سوى في أرض الفنتازيا.