عنوان هذا المقال يلخّص رحلة العالم العربي السياسية والفكرية خلال العقود السبعة الماضية، ولمن لا يعرف مفردة (قمعري) فإنها تعني ذلك المصطلح الذي اتصف به نفرٌ من جيل الستينيات الميلادية، الذي أُخذ بحركة القومية العربية، وأُعجب بها، وأطلق على نفسه (قمعري). ومع مرور كل هذه العقود على عالمنا القريب منا، فإن المشهد من حولنا ليس في أحسن أحواله، وعلى حد تعبير الأمير (تركي الفيصل)، فالجدران من حولنا تحترق.. تحرقها ألسنة تيارات الفرقة السياسية، وتجاذبات الصراعات الفكرية، وطوفان المذهبية، ونار الطائفية، وتمزقات الحروب الأهلية، واستقطابات النزعات السياسية. هذا المرجل تغذيه حالات من الإحباط والعجز، ومؤشرات مرتفعة من الفقر والبطالة، ومشاعر ضياع الهوية، وضبابية الهدف، وتعطل البوصلة، وُيتوّج كل هذا نقاشات فكرية عنيفة، ورؤى متصارعة وصاخبة!. لقد اكتوى عالمنا العربي عبر تاريخه المعاصر بمختلف التجارب السياسية، والمراهقات الفكرية، والنزعات الأيدلوجية والاقتصادية المختلفة، أخذت أسماء براقة، ولكنها انتهت بنتائج كارثية، دفع المجتمع العربي وإنسانه بسببها ثمناً باهظاً من موارده البشرية ومقدراته الوطنية، بل وخسر الوطن العربي بسببها رهان الزمن، وأضاع سباق المستقبل على اعتلاء المواقع الأممية ومصاف الأمم المتحضرة، تلك المواقع التي تجلب الاحترام، وتوفر الكرامة، وتنشر الأمل، وتشيع السلام، وتنعش الاقتصاد.. وما زلنا حتى يومنا هذا نسأل السؤال الأزلي: لماذا تقدّم غيرنا وتخلّف العرب؟! سلسلة من التجارب عبر عالمنا العربي من خلالها إنفاق تيارات وموجات، شملت الإحيائية والنهضوية والليبرالية، إلى الاشتراكية والقومية والوحدوية، والبعثية والثورية، مروراً بالانفتاحية الفجّة، وانتهاءً بالإسلاموية السياسية، التي لبست لباس الدين لخدمة طروحات وطموحات ومشروعات سياسية، أفرزت لنا مظاهر شتى من الركود والتشرذم والتراجع والتطرف والإرهاب، وحالات من التشرذم والمذهبية والطائفية، ونزعات نحو الاكتفاء على الذات، والتمترس خلف مقولات غالبها خارجة عن السياق. ولم نسلم - نحن السعوديون - باعتبارنا جزءاً من هذا الفضاء، وذلك المحيط، من شظايا هذه الموجات المتدفقة، وإن كنا الأقل تضرراً من غيرنا، بفضل جبهة داخلية بدت أكثر تماسكاً، وقيادة سياسية ظهرت أكثر حكمة في إدارة تلك الأزمات. ولكن ماذا عن المشهد الآن؟ وإذا كنا قد تجاوزنا بنجاح تلك المراحل بخيرها وشرها، فماذا أعددنا لهذه المرحلة؟ وما هي خياراتنا الاستراتيجية للتعامل معها؟ لكم هو محزن، ومهدر للوقت، ومشتت للجهود، أن تنشغل النخب والطاقات الفكرية لدينا، وبعض فعاليات مجتمعنا، في حروب بدون رايات، وسجالات فكرية متضاربة ومشوشة، حاملة شعارات التصنيفات، ولواء إطلاق الأوصاف والوصمات، يمنة ويسرة.. مشغلة بذلك نفسها والرأي العام في قضايا لا تخدم المجتمع، ولا تسهم في تماسك اللحمة الوطنية، بل تشتت الانتباه، وتصرفنا عن مشروعنا الحضاري القادم، إذا أردنا أن نقبل بالتحدي الحضاري القادم علينا من الشرق والغرب. اليوم، نرى ارتالاً من المثقفين والمفكرين والمهتمين بالشأن العام، من أصحاب المنابر والمحابر، أو ممن يملأون الساحات الإنترنتية والمدونات الشخصية، أو ممن يظهرون على الفضائيات العربية والأجنبية، ناشرين غسيل مجتمعنا، وبأدق تفاصيله وخصوصياته، مشرشحين لا مُشرحين.. هكذا دون كوابح تفرضها الذائقة السليمة، بل - أحياناً - تطال التعرض للأشخاص، والرموز السياسية والدينية والفكرية ومحاكمة النوايا، مما ينافي أبسط مبادئ الأعراف والأخلاق والشهامة وحتى المروءة.. وربما التعرض للدين، والتعريض بالدولة، مما يندرج تحت مظنة تنقص هيبتها، التي ما أحوجنا لاحترامها، وهي تستحق ذلك، في وقت تتلاطم فيه الأزمات، وتتداعى علينا الأمم من كل اتجاه. ما هو حال العراق وما هي أوضاع لبنان، وهما الأشد وضوحاً، وما هو حال غيرهما مما لا تخفى مآسيه على فطنة اللبيب، ونظرة العاقل، وتأملات الحصيف، والتي تجعل من المرء يفكر ألف مرة قبل أن يُقدم على هذه العبثيات، أو يطارد حلماً طوباوياً بتحقيق المدن الفاضلة! يقال بأن النار من مستصغر الشرر، وإتاحة الساحة لكل من هبّ ودبّ أن يرفع عقيرته، ويُعمل قلمه، ويلوك بلسانه من شاء، وكيفما شاء، وأينما شاء، وينصّب نفسه سيد الحكماء في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع.. هكذا دون ضوابط أخلاقية أو محاسبة رسمية، ما هي إلا وصفة للفرقة، وتمزيع للحمة، وإضاعة للمكتسبات. نعم لحرية الرأي، ونعم للتعبير عن الطموحات والآمال والرغبات، ونعم للإصلاح.. فهذه سنة الحياة، وحق فطري وشرعي وإنساني.. ولكن قبل كل شيء فإن الحرية بمختلف أنواعها ثقافة ومسؤولية، محكومة ومنضبطة.. حتى لدى غيرنا ممن سبقونا هناك مواثيق شرف، ومصالح عليا، وخيارات مجموع، وذائقة عامة، وقيم مرعية تحكم الخطاب العام، وقواعد النشر، وآداب التحدث في وسائل الإعلام، وإذا لم يجد ذلك فهناك لديهم محاسبة وقضاء وإقصاء. ينبغي للخروج من عنق الزجاجة أن يكون لدينا إحساس جماعي بالأولويات، ومشروع وطني حضاري نقبل به، ونُجمع عليه، وتُجمع عليه مختلف نخب الفكر، وشرائح المجتمع، والمهتمون بالشأن العام في المجتمع السعودي، خاصة بعد هذه الموجات التي سادت ثم بادت. ولا أجد مثل طرح مشروع وطني شامل، يكون (الاقتصاد) هو جوهره ومحرّكه ورافعته ووسيلته وهدفه.. مشروع يجمع الناس عليه بعد العقيدة، لأن الاقتصاد مادة الحياة، ولا يفرّق بين تيار وتيار، أو فئة دون فئة، أو شريحة دون أخرى.. ويؤدي وظيفة حيوية في تماسك المجتمع، دون اعتبارات ل (اللون) والعرق والدين والمذهب والتوجه الفكري والمناطقي، فالناس فيه سواسية، لأنه يخدم مصلحة الفرد وبالتالي مصلحة المجموع، ضمن إطار تضبطه الدولة، وتوجّه مساراته المؤسسات المعنية به. المشروع الاقتصادي الشامل مطلب حضاري، له شروط ومنطق وضرورات، ولكنه لا يتعارض مع الثوابت والقيم وتوجهات المجتمع السعودي، إذ أحسنا بلورة صياغته، وعدالة توزيعه، وشمل الجميع، وعمّ نفعه المجموع.. فالتجارة والاستثمار والصناعة وتبادل المنافع والسلع والخدمات والمصالح أمور مشروعة، ويشجع عليها الإسلام، والمجتمع لا يأنف منها، حتى في تعاملنا خلالها مع غير المسلم. مشروع اقتصادي نهضوي يأخذ بمنطق العصر، ومتطلبات العولمة، وتستفيد منه مختلف شرائح المجتمع.. مشروع يوسّع دائرة الطبقة المتوسطة في المجتمع السعودي، التي هي أساس استقرار الدول، وازدهار المجتمعات، وتقدم الشعوب. المطلوب مشروع اقتصادي يفتح آفاق التعليم العصري شكلاً ومضموناً، ويشجع الأخذ بأسباب الحضارة، وينمّي المواهب، ويطلق الملكات، ويغذي الطاقات، ويوسّع شعب الاستثمار، ويوفر فرص العمل للقوة العاملة السعودية، في مجتمع يشكل شبابه أكثر من (65%) من هرم السكان. لست من المأخوذين كثيراً ب (تجربة دبي)، ولكنها في ناحية منها استطاعت أن تجنب مجتمعهم التجاذبات، وتسهل انخراط الجميع في ورشة عمل استثمارية، كان الاقتصاد مفتاحها، والتسهيلات منطلقاتها، والحرية الاقتصادية بحوافزها مدخلاتها. بدأنا بشيء من هذه المحاولات، عبر بذور اقتصاد المعرفة، وجامعات العلم، ومدن الاقتصاد، وصناديق الاستثمار، وحركة الإقراض، وتسهيل حركة السلع والمال والخدمات، ولكن نطمح بالمزيد، ليكون الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتسهيلات والمزايا والمحفزات، وتخفيف القيود، وتسهيل الإجراءات هو مدخلنا - كدولة ومجتمع - نحو القرن الواحد والعشرين، والألفية الثالثة، واقتصاد العولمة، وأساس خطابنا العام الرسمي والفكري.. بدلاً من إشغالنا بهذه الانشقاقات في الفكر، والتشققات في النسيج، والانزلاقات في الهوى، والخروقات في الدين، والمساس في العقيدة، والهرج والمرج و(القرق) فيما لا طائل تحته. علينا أن (نصمم) مشروعنا السعودي الحضاري هذا في إطار دوائرنا المتداخلة الثلاث، والمتفق عليها بين الجميع: الدين والوطن والدولة، والمشروع الاقتصادي الشامل يتداخل ويتقاطع مع هذه الدوائر، ولا يتناقض معها. لا يكفي أن نكون منتقدين، بل علينا أن نطرح مشروعاً وطنياً، وبديلاً جذاباً، وخياراً سعودي الولادة، وطني النشأة، محلي التربية.. والاقتصاد المزدهر المتوازن، الذي ينخرط فيه جميع المواطنين ويستفيدون منه، هو (البوابة) الكبرى لولوج هذا المشروع الوليد. فالصين والهند والنمور الآسيوية - على سبيل المثال - كان (الاقتصاد) هو معركتهم الكبرى، وحولّهم من حال إلى حال، وليس سجال التيارات السياسة والمعارك الفكرية، والدجل الأيدلوجي، والنبرات العاطفية والنارية و(الاستفزازية) على أعمدة الصحف، وشاشات التلفزة، وساحات الإنترنت. ما يريده السواد الأعظم من السعوديين، وأغلبيتهم الصامتة، ليس تلك السجالات الفكرية، والتصنيفات الانتمائية، والركلات الكلامية، والحديث عن الانتخابات، والمشاركة السياسية، والتمثيل البرلماني، وقيادة المرأة للسيارة.. فهذه أمور مؤجلة، بالنسبة لهم، وتأتي بالتدرج، ومع مرور الوقت، ووفق إيقاع حركة المجتمع، وليس رغماً عنه. ما يريده المواطن ويطمح إليه - اليوم - هو توسيع الطبقة المتوسطة.. طبقة عريضة من المواطنين تتوفر لها حياة كريمة، تشمل فرص التعليم، والعمل، والأجر المجزي، وخدمات الصحة، والإسكان، وفرص التدريب.. وهذه المطالب لا توفرها للمواطن التجاذبات الفكرية، ولا الملاسنات الاستفزازية على الشاشات والساحات والفضائيات، بل يوفرها اقتصاد معولم، ومنفتح ومزدهر، وجاذب ومشجع، ينخرط فيه الناس جميعاً، ويشعرون أنهم يعيشون في ظل كيان - الناس أنفسهم - هم الأحرص على بقائه واستقراره والمحافظة عليه، بل وازدهاره واستمراره، لأنهم المستفيد الأول منه، ولتظل بلادنا - كما هي - واحة أمن، وموئل سلام، ومصدر خير للجميع.. لدينا كل مقومات نجاح هذا المشروع الوطني.. فهل نحن فاعلون؟