كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك وغيره من السياسيين الفرنسيين يراهنون خلال العام المنصرم على فوز السيناتور الديموقراطي الامريكي جون كيري على جورج بوش منافسه الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التي جرت في الولاياتالمتحدة في شهر نوفمبر الماضي لوضع حد لتوتر العلاقات من قبل القوات الامريكية في شهر مارس عام 2003. وكان الفرنسيون يعتقدون ان فوز كيري على بوش من شأنه فعلاً ان يفتح صفحة جديدة في العلاقات بين واشنطن وباريس لاسيما وان أسرة المرشح الديموقراطي السابق من اصول فرنسية وانه يجيد لغة موليير. كان الفرنسيون يعتبرون ايضاً ان تعيين ميشيل بارنييه المفوض الاوروبي السابق على رأس الدبلوماسية الفرنسية كفيل بإرضاء الادارة الامريكية التي كانت ترى ان دومينيك دوفيلبان وزير الخارجية الفرنسي السابق قد اضطلع بدور هام في تأليب الرأي العالمي ضد السياسة الامريكية تجاه العراق وفي جعل الصورة الامريكية تسوء اكثر فأكثر في العالم بسبب هذه السياسة. ولكن باريس اخطأت في حساباتها تجاه واشنطن او على الاقل ازاء ما كانت تعول عليه لتذويب الجليد القائم بينهما. فقد اعيد انتخاب الرئيس الامريكي جورج بوش بشكل واضح بدا من خلاله ان المواطنين الامريكيين يفضلونه على كيري. وبالرغم من ان العلاقات الامريكية - الفرنسية هي اليوم افضل بقليل مما كانت عليه قبيل اندلاع الحرب العراقية فإنها لا تزال متأزمة.ومثلما اخطأت باريس في حساباتها ازاء واشنطن اخطأت ابيدجان. ففي عام 2003 استطاعت فرنسا حمل اطراف ازمة ساحل العاج على ابرام اتفاقيات لوضع حد للازمة الحادة التي يتخبط فيها هذا البلد الافريقي منذ عام ألفين واثنين. وتم التوقيع عليها في بلدة مركوسي الواقعة في الضاحية الباريسية. ولكن عام ألفين وأربعة كرس فعلاً فشل هذه الاتفاقات. بل ان شهر نوفمبر الماضي شهد بحق تمرداً عنيفاً من قبل انصار الرئيس العاجي لوران غباغبو على الوجود المدني والعسكري الفرنسي في هذا البلد الذي كان من قبل مستعمرة فرنسية والذي كان يضرب به المثل قبل موت رئيسه السابق هوفييت بوانييه في الاستقرار داخل القارة الافريقية. ولم يكتف الامر عند هذا الحد بل ان هجوما من قبل القوات العاجية النظامية على قاعدة عسكرية فرنسية في مدينة بواكي ادى في شهر نوفمبر الماضي الى مقتل تسعة جنود فرنسيين. وادى تدخل القوات الفرنسية المرابطة في ساحل العاج لحماية الاجانب البيض ولاسيما الفرنسيين المقيمين في ساحل العاج من هجمات السكان الاصليين الى قتل قرابة ستين شخصا من المواطنين العاجيين. ويقول كثير من المحللين السياسيين ان عام ألفين وأربعة اثبت فعلاً ان فرنسا لم تتوصل بعد الى ايجاد صيغة واضحة تتعامل من خلالها مع مستعمراتها السابقة انطلاقا من مبادئ تكرس شراكة حقيقية تقوم على تبادل المصالح في كنف الاحترام المتبادل. المعضلة التركية من الملفات الاساسية التي فرضت نفسها في فرنسا طوال عام 2004 ذلك الذي يتعلق بالطلب التركي الانضمام الى الاتحاد الاوروبي. وما يثير الانتباه بشكل خاص في هذا الملف كما طرح في فرنسا انه اظهر تناقضا واضحا بين اطروحات رئيس الدول من جهة والاغلبية الحاكمة التي ينتمي اليها والتي تسانده من جهة أخرى. فالرئيس جاك شيراك كان في السنوات الأخيرة من مؤيدي دخول الاتحاد الاوروبي في مفاوضات مع تركيا تؤدي الى انضمامها اليه. ولكن الحزبين اليمينيين التقليديين اي «حزب الاتحاد من اجل حركة شعبية» من جهة و«حزب الاتحاد من اجل الديموقراطية الفرنسية» من جهة أخرى كانا ولا يزالان يعترضان على مبدأ انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي. ومن ثم فإن جاك شيراك قد وجد نفسه في الاشهر الستة الأخيرة من عام ألفين وأربعة في وضع صعب جداً امام تركيا وامام نظرائه في دول الاتحاد الاوروبي والاغلبية التي ينتمي اليها في الداخل وازاء الرأي العام الفرنسي الداخلي الذي يفرض في غالبيته مبدأ انضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي. وقد جعل هذا الحرج الرئيس الفرنسي يتخذ موقفا ضبابيا ومتوتراً من المفاوضات الاوروبية التركية المقرر الشروع فيها في الثالث من شهر اكتوبر القادم. فهو يقول من جهة ان الاتحاد الاوروبي قد قبل فعلاً بإجراء مثل هذه المفاوضات وانه يؤيد ذلك. ولكنه يضيف قائلاً ان لديه قناعة شخصية بأن المفاوضات ستكون عسيرة جداً الى حد يجعل رغبة تركيا في الانضمام الى الاتحاد الاوروبي امراً لا يمكن ان يتحقق بأي حال من الاحوال. سباق محموم ويقول المحللون السياسيون بدورهم ان المسألة التركية اظهرت تراجعا في سلطة الرئيس الفرنسي وان سنة ألفين وأربعة شهدت بحق بداية انطلاق سباق محموم بين جاك شيراك ونيكولا سركوزي وزير الداخلية السابق باتجاه الاستحقاق الرئاسي القادم المبرمج لعام ألفين وسبعة. فقد عهد الى سركوزي عام الفين واثنين في وزارة الداخلية املاً في الحد من شعبيته. ولكن هذا السياسي الشاب البراغماتي نجح حيث فشل وزراء الداخلية السابقون. واصبح شيئاً فشيئاً يفرض نفسه على رئيس الدولة وعلى رئيس الوزراء وعلى الرأي العام. وسعى شيراك الى ابعاده عن وزارة الداخلية وتعيينه وزيراً للاقتصاد والمالية حتى يثقل عليه. ولكن الوزير الشاب استطاع في بضعة اشهر اكتساح دواليب الحزب الحاكم والوصول الى هرمه في شهر نوفمبر القادم. وهو يعد العدة اليوم لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة. ولديه شبه قناعة بأنه سيبز كل المرشحين الآخرين بمن فيهم مرشحو اليسار الذي لا يزال يبحث عن زعيم بالرغم من انه استطاع استرجاع عدد من المواقع التي فقدها عام الفين واثنين خلال الانتخابات الرئاسية الماضية. البحث عن الشرعية ويمكن القول ان نيكولا سركوزي اسهم عام 2003 وخلال عام 2004 في اعادة الاعتبار الى الجالية الاسلامية في البلاد. فقد نجح في عام 2003 في حمل مختلف المنظمات والجمعيات الاسلامية على انشاء مجلس الديانة الفرنسي. واصبحت هذه الهيئة همزة الوصل بين المسلمين الفرنسيين او المقيمين في فرنسا من ناحية ومؤسسات الدولة الفرنسية الادارية والسياسية من ناحية اخرى في ما يخص شؤون الدين. وكانت هذه الحلقة مفقودة على عكس ما هو عيه الامر بالنسبة الى معتنقي الديانتين المسيحية واليهودية. وصحيح ان عام 2004 اظهر انقسامات حادة في صفوف المشرفين على مجلس الديانة الاسلامية الوطني الفرنسي. ولا يزال ولاء هذا الطرف او ذاك من اطراف قيادة المجلس تجاه اطراف خارجية يشكل خلفية هذا الخلاف وحجر عثرة يحول دون ايجاد ارضية مشتركة يمكن ان يتبلور حولها مشروع متكامل بالنسبة الى علاقة الدولة الفرنسية بمؤسساتها الدينية والادارية بالديانة الاسلامية. وكان يخشى في البلاد ان يؤدي القانون المتصل بمنع الرموز الدينية البارزة في المدارس العامة الى حصول بلبلة وازمة حادة عند البدء في تطبيقه في شهر سبتمبر من عام 2004. بيد ان ذلك لم يحصل بل ان المظاهرات التي اقيمت في مختلف انحاء المدن الفرنسية في شهر سبتمبر الماضي لمساندة الصحافيين الفرنسيين اللذين احتجزا في العراق من العشرين من شهر اغسطس الى الواحد والعشرين من ديسمبر الجاري قد فاجأت الرأي العام الفرنسي والعربي والاسلامي في ما يتعلق بحقيقة العلاقة بين الدولة الفرنسية والديانة الاسلامية. فقد كان تنظيم «الجيش الاسلامي في العراق» محتجز الصحافيين الفرنسيين يطالب الدولة الفرنسية بالغاء قانون منع الحجاب كشرط اساسي من شروط الافراج عن الرهينتين. ولكن كثيراً من الفتيات الفرنسيات المحجبات خرجن الى الشوارع وطالبن بدورهن المحتجزين بالافراج عن الصحافيين الفرنسيين واعتبرن ان قانون منع الحجاب امر داخلي فرنسي. ومهما يكن الامر فإن المساعي التي قام بها مجلس الديانة الاسلامية في فرنسا لدى هيئة علماء السنة في العراق في شهر سبتمبر الماضي والحماس الذي ابدته الجالية الاسلامية في البلاد تجاه ملف الصحافيين الفرنسيين اللذين كانا محتجزين في العراق عنصران اساسيان من العناصر التي اسهمت في تغيير النظرة التي كان الرأي العام الفرنسي ينظر من خلالها من قبل الى الاسلام والمسلمين في فرنسا. ولاشك ان سنة 2004 قد مكنت الجالية الاسلامية من اكتساب شرعية لا تزال هشة ولكنها اساسية بالنسبة الى مستقبل المسلمين والاسلام لا في فرنسا فحسب بل في سائر بلدان اوروبا الغربية الاخرى ايضاً.