من أشد الأشياء مرارةً على النفس الأسر في ساحة الوغى، وخاصةً حين يكون الأسير أميراً أو فارساً مغواراً أو شاعراً مرهف الوجدان.. ومن أشهر الأسرى في تاريخنا العربي: * جعفر بن علبة الحارثي في العصر الجاهلي. * أبو فراس الحمداني في عصر سيف الدولة الحمداني 320ه تقريباً. * راكان بن حثلين شيخ قبيلة العجمان الذي أسره الأتراك عام 1288ه وبقي في الأسر سبع سنوات، وقيل ثمان.. فيا حَظّ من ذعذع على خَشْمه الهوى وتنشّق من ريح الخزامى فنودها (راكان بن حثلين) وقد وردت عدة روايات عن طريقة أسر راكان بن حثلين أوردها الأستاذ يحيى الربيعان في كتابه القيم: «راكان بن حثلين شاعر وفارس وشيخ العجمان» من ص190 إلى 213 أي 24 صفحة أورد فيها روايات مختلفة عن أسر هذا البطل راكان بن حثلين حيث ذكر روايات كل من المرحومين عبدالله الحاتم، محمد منديل الفهيد، والشاعر فهد بن محمد بن فردوس العجمي والدكتور محمد بن عبدالله آل زلفة في بحث له جيد وموثق نشره في مجلة (التوباد) الصادرة في شهر محرم 1413ه (العدد الرابع) والشاعر طلال السعيد، كما أبدى المؤلف رأيه، وهناك شبه إتفاق على أن راكان بن حثلين أسره الأتراك في حدود عام 1288ه وأنه بقي في الأسر سبع سنوات ولكن الاختلاف في سبب إطلاق سراحه حيث تختلط الحقيقة بالأسطورة الشعبية التي شجاعة راكان المشهودة في غني عنها.. *** وبعد أن أسر راكان بن حثلين تم سجنه في اسطنبول أو ولاية (نيش) عاصمة بلغاريا حالياً، وكانت وقتها تحت الحكم التركي، على اختلاف الرواية فإن فارسنا المشهور ظل سجيناً ومعه رجل اسمه حمزة، قيل إنه حارسه وقيل إنه سجين معه، والقول الأول أقرب، وحمزة هذا يعرف العربية، وربما كان أصله من مصر، المهم لدينا هو أن راكان رأى سحاباً كثيفاً وبرقاً شديداً من خلال قضبان سجنه فبشر حمزة بالمطر فقال هذا لا حاجة لنا بالمطر.. وذلك لكثرة الأمطار في بلادهم وندرتها في صحراء العرب مما جعل راكان - كبقية العرب - يعشق المطر.. فقال قصيدته المشهورة وهو أسير: «أخيل يا حمزه سنا نوض بارق يفري من الظلما حناديس سودها على ديرتي رفرف لها مرهش النَّشا وتقفا من دهم السحايب حشودها فيا لله يا المطلوب يا قايد الرجا يا عالم نفسي رداها وجودها آنَّك توفقها على الحق والهدى ما دام خضراً ما بعد هاف عودها وابراج لعين لا اقبل الليل كنها رمداً وذارفها تغشّى خدودها تقطّعت الأرماس عنا ولا بقي إلا ودود دايمٍ في وجودها فيا حظّ من ذعذع على خشمه الهوى وتنشّى من أوراق الخزامى فنودها وتيمَّم الصمان إلى نشفَ الثرى من الطفّ والاحادرٍ من نفودها وكان دائم الحنين في أسرة إلى قبيلته ومرابعها، إلى الصمان وأجوائها، ومما قال وهو أسير حين رأى طيراً يحلق حراً طليقاً? لا واهني يا طير من هو معك حام والا انت تنقل لي حمايض علومي إن كان لامن حمتْ وجهك على الشامُ بايسر مغيب سهيل تبغى تحومِ باكتب معك مكتوب سر ولا الامْ ملفاه ربعٍ كل أبوهم قرومِ سلّم على ربعً تنشد بالاعلامْ لا واهني من شافهم رُبْع يومِ ومن سايلك عني فانا من بني يامْ من لابة بالضيق تقضي اللزوك ربعي ورا الصمان وانا بالأورامْ من دونهم يزمي بعيد الرجومِ حال البحر من دونهم له تليطامْ ومن دونهم مايات موجٍ تعومِ ومن عقب ما سيفي على الضدّ حطَّام اليوم سيفي واضعه كنّه أشومِ صارت سوالفنا معي مثل الاحلامْ مالي جدا يكون عد النجومِ لا من ذكرت رموس عصر لنا دام قمت أتململ والخلايق نيوم أما أبو فراس الحمداني فسبق أن كتبنا مقارنة بينه وبين راكان في هذه الصفحة قبل أكثر من سنتين، حيث يجمع البطلين عدة جوامع: الفروسية والزعامة والشعر والأسر والنفس الأبية، وقلنا أن مفتاح شخصية الأول (السيادة) والثاني (راكان) (عز القبيلة) هو مفتاح شخصيته.. يقول أبو فراس: من كان مثلي لم يبت إلاَّ أسيراً أو أميراً وكان جميلاً نبيلاً يطمح للسيادة في السياسة والشعر وهو بهما جدير لولا أنه ولد في عصر رجلين كسفا به كما تكسف الشمس بالكوكب، سيف الدولة والحمداني وكان أدهى منه في السياسة، والمتنبي وكان أكثر إبداعاً منه في الشعر، وبين العلمين ضاع أبو فراس أو كاد، وأخذته عقدة الاضطهاد، وأسره الروم غدراً وحيلة كما أسر الأتراك راكان غدراً وحيلة، ولبث في أسره سبع سنوات كصاحبه، وخرج ببطولة كبطولة راكان.. ومما قاله أبو فراس وهو أسير يتذكر أمه في (منبج): «لولا العجوز بمنبج ما خفت أسباب المنيه ولكان لي عمَّا سألتُ من الفِدا نفس أبيه لكن أردتُ مرادها ولو أنجذبتُ إلى الدنيه وأرى محاماتي عليها أن تُضَامَ مِنَ الحميَّه أمست بمنبجَ حَرَّةً، بالحزنِ من بعدي حريَّه لكنّ قضاءَ الله والأحكام تنفذ في البريَّه والصبر يأتي كلَّ ذي رزءِ على قدر الرزيَّه لا زال يطرق منبجاً في كلَّ غاديةٍ تحيه فيها التقى والدين مجموعانِ في نفسٍ زكيَّه» وكما خاطب راكان طيراً رآه يحوم وهو أسير، خاطب أبو فراس حمامة تنوح وهي طليقة، في قصيدته الشهيرة: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا لو تشعرين بحالي»؟! * أما جعفر بن علبة الحارثي فقد أُسَرْ بمكة لدمٍ عليه، وأَعْلِمَ أنه سيٌعْدَم بعد أيام، ولكنه في أحلك الظروف تذكر محبوبته ورآها في منامه فقال: «هوايَ مع الركب اليمانينَ مُصّعدٌ جنيبٌ وجثماني بمكَّةَ موثقُ عجبتُ لمسراها وأنَّى تخلَّصَتْ إليَّ، وبابُ السجن دوني مُغْلَقُ؟! ألمَّتْ فحيَّت ثم قامت فودعتْ فلمّا تولت كادتِ النفسُ تَزْهَقُ فلا تحسبي أني تخشَّعتُ بعدكم لشيء ولا أني من الموتِ أفْرَقُ ولكنْ عرتني من هواكِ ضمانةٌ كما كنتُ ألقى منكِ إذ أنا مُطْلَقُ»