شكراً لكم صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية على الكلمات المضيئة والتوجيهات السديدة التي تفضلتم بها في لقاء سموكم بمعالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والمسؤولين في الوزارة، وشكراً لكم معالي الوزير على الوضوح والصراحة والدقة في التشخيص. العقيدة أولاً نعم سمو الأمير هي أولاً وآخراً وقولك حق مستمد من قول الحق جل وعلا (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) «الذاريات 56». نعم سمو الأمير إن سنّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الثقلين إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وهي سنّة خلفائه الراشدين من بعده. نعم سمو الأمير إنها عقيدة بلادنا صانها المولى وحفظها، ثم نعم إن سلامة المعتقد والعمل به وتمتين علاقة الناس بالمعتقد الصحيح وايضاحه وتجليته لهم رسالة هذه البلاد التي نفاخر بها في كل موطن ومحفل وواجبنا الشرعي الذود عنها. سمو الأمير.. صحيح الوضوح والثبات على المنهاج وعدم الحاجة إلى أحد يدفع الأنفس المريضة إلى مضمار الحسد الذي يقتفيه المرضى والمأفونون، وقد كان تاريخهم مع دولتنا الشامخة جليا وواضحا ولكن الله باءه بالفشل. سمو الأمير.. يا رعاكم المولى وسددكم إن قولكم بالتلازم بين الأمن المادي والأمن الفكري هو المنهاج الذي تأسست عليه سياسة بلادنا الداخلية والخارجية وسارت عليها، وقطار مسيرتها لن يتوقف بإذن الله. سمو الأمير.. قولكم هذا جاء من ادراككم بأن المعارف المستقرة والمعلومة لدى الناس، المتوافقة مع العقول السليمة ومع تجارب المجتمعات البشرية، المؤيدة بالأدلة العلمية أن «الفكر والأمن» وإن تنوعا في اللفظ فهما لا ينفكان عن بعضهما في الجانب المعنوي والجانب المادي بل هما كما «يقال» وجهان لعملة واحدة. سمو الأمير.. قولكم العلاقة بين الفكر والأمن ليست حديثة عهد باهتمام، إذ عليهما مدار وموضوع الرسالات السماوية، حيث إن العوامل والعناصر المحققة للأمن المادي مرتبطة بسلامة الجانب المعنوي، وهو سلامة المعتقد في توحيد الله وتعبده وفقاً لمراده صلى الله عليه وسلم وعلى المنهج الصحيح السليم، وبفهم سليم. هذا تحليل ثاقب ورسالة جلية ومنهاج قويم. وتأصيل هذا الجانب ونشره وحمايته والدفاع عنه هو رسالة الرسل عليهم من الله جميعاً الصلاة والسلام من لدن آدم إلى نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الذي جاء بالرسالة الخاتمة والعقيدة الصافية السليمة والمنهاج المستقيم ودعا إلى ذلك، وهاجر من أجله، وجاهد في سبيله، وربى أمة الإسلام عليه فكان منهاج الخلفاء الراشدين من بعده والصحابة الكرام، وتواصلت على ذلك أمته من بعده جيلاً بعد جيل بفهم سليم، ومنهاج واضح، فرسخت أركانها وثبتت أصولها وأثمر غرسها ثمراً يوفر الطمأنينة والأمن لبني الإنسان ويصلح حال الناس، فكان الأمن الحقيقي بشموله وعمومه، وكان العدل الذي شمخ بنيانه فاستقام عود المجتمع، وانتشر العلم الذي بدد ظلام الجاهلية، فأنور العالم بأسره حساً ومعنى هذا التأصيل والتمسك منهاج بلادنا حماها الله من كيد الكائدين. إن ما يمر به العالم اليوم من اضطراب أمني إنما هو بسبب مفسدات أثرت سلباً على سلامة المعتقد فتأثر ميزان الاعتدال في الفكر فاضطربت مخرجاته حتى غاب ميزان الحق فطغى الظلم على العدل، والانحراف على الاستقامة، والغلو على الوسط. ومن يعيش على ظهر هذه الأرض اليوم من الأناسي يتأمل تلك العلاقة بين الأمن والفكر ويدرك حدود إطارها العام في التأثير بما يجري وخاصة الممارسات البشرية الخاطئة التي لم تخل بالأمن الحسي واستقرار المجتمعات فحسب، بل سببت انحراف الفهم الصحيح الذي بفقده تفقد كل العناصر المادية والمعنوية المكونة لمنظومة الأمن البشري المعنوي والمادي. إن الإنسان المتأمل لتلك الممارسات الخاطئة يستحضر التلازم بين الأمن والفكر وعلاقتهما ببعضهما في البناء والتكوين وأثر كل منهما في السلوك والتصرف.. ويستحضر كذلك ما تفرزه تلك الممارسات والتجاوزات من بذر لفكر يحيد عن جادة الصواب ليصادم الفكر السليم والمعتقد الصحيح فيخلق حالة من الفوضى الفكرية التي ينتج عنها انحراف في العمل والسلوك، حتى بات الناس في خوف وفقدان طمأنينة، وما تأسست مدارس الانحراف الفكري إلا في بيئة فكرية متلوثة التربة والأجواء فاقدة لأبسط مظاهر الأمن، فالضدية في العلاقة جعلت علاقة الفكر بالأمن بدرجة من الوضوح الذي جعلها مستقرة في المعرفة لدى العامة والخاصة، بل إن مما استقر في المعرفة الإنسانية السليمة أن الانحراف لا يُولد ولا ينشأ في ظل أمن فكري ناضج قائم على أصول وثوابت راسخة، مبنية على معتقد سليم، وفي مجتمعات سوية مستقيمة ذات قيادة راشدة. والصورة غير المتزنة للعلاقات البشرية في عالم اليوم ليست وليدة صدفة أو حدثت بسبب خطأ غير مقصود ارتكبه فرد أو جماعة، بل ان سبب ذلك انحراف فكري قاد إلى ذلك الاختلال الذي ظهر به الأمن المادي، فالفكر هو ربان السفينة الذي يقودها إلى ساحل الأمان، وبمعنى آخر فإن افتقاد الأمن المادي سبقه انحراف عن الفطرة السوية، بسبب خلل في مدخلات الفكر البشري، فجاءت مخرجاته كذلك. والمخزون الفكري هو المنظار الذي يمكن الإنسان من القدرة على رؤية ما حوله والتعامل والتفاعل معه، ولا يمكن ان نغفل ما اكتسبه من تجارب وخبرات تراكمية ذات تأثير على اختيار النمط الفكري بل إن تلك التجارب والخبرات المكتسبة لها تأثير كذلك في السلوك الذي يمارسه الشخص، وتحديد موقفه مما حوله وهذا أمر تعارف الناس عليه واستقرت افهامهم على معرفته لأنه يتوافق مع الطبع والطبيعة البشرية ويوافق المعقول إذ هو ليس بمعقد أو غير ممكن. ولكن ما يخالف الطبع البشري السوي ويناقض صريح المعقول، وصحيح المنقول، ويوصف بالتعقيد وبسبب الانشقاق والاختلاف والنزاع، اعتقاد الإنسان ان ما لديه من منتج فكري هو الصواب الصحيح المطلق وكل ما يخالفه خطأ لا يحتمل الصواب من غير وجه حق لهذا الاعتقاد بل ويريد أن يحمل الناس على ذلك، ومثل هذا الاعتقاد الخاطئ والفعل الناتج عنه هو ما سبب بعد النجعة عن الصواب عند كثير من الفرق والجماعات والتحزبات التي انتشرت عبر التاريخ البشري وظهرت علينا في زمننا الحاضر بأسماء وألوان ومظاهر جديدة ولكنها متحدة في الفكر والهدف فأصبحت تتعامل مع الناس بطرق معوجة، وصنفت الناس إلى تصنيفات وفئات وجماعات ويقتصر التعامل معها وفق تلك التصنيفات التي ما أنزل الله بها من سلطان ولا تتفق مع منهج سلف هذه الأمة ولابد أن تقر لتلك الجماعات والفرق والأحزاب بما تريد وما تهوى. إن هذه الفرق والجماعات خلقت حالة من الفرقة والتشتت والتشرذم والعنف والتصادم في المجتمعات والدول. بل انها خلقت عند مفكريها «إن صح وصفهم بذلك» منهج الإجبار والفرض مخالفين ما اشتهر لدى العقلاء من الناس فضلاً عن العلماء والمفكرين الذين يعتقدون أن ما لديهم خطأ يحتمل الصواب وما لدى غيرهم صواب يحتمل الخطأ ولهذا يجندون أنفسهم في التنقيب عما لدى غيرهم من صواب لكي يأخذوا به ويستفيدوا منه ويتفاعلوا معه فلا يضعون الحواجز التي تلغي الرأي والفكر الآخر، وهذا منهاج الأئمة الفضلاء من سلف هذه الأمة فيما لا نص فيه وأما ما نصت عليه أدلة الشرع من ثوابت وقطعيات في الدلالة فلا خلاف بينهم بوجوب اتباعها والعمل بمقتضاها على الوجه الصحيح الموافق للنقل الصحيح والعقل الصريح وعلى الفهم الصحيح. إن هذه الفرق والجماعات والأحزاب تتغافل عن الحق وتصد عنه وتحاول التأثير السلبي على أداة التفكير السليم لأنها تدرك أن المنهاج المستقيم الذي يؤدي إلى الفكر السليم لابد له من وعاء سليم وأداة تخطيط وتدبير وهذه الأداة هي العقل البشري الذي هو بمثابة الآلة التي تنتج الفكر وتختزنه وتعمل به وفي ضوء ذلك يكون السلوك البشري «والظواهر الخارجية لسلوك الإنسان وتصرفاته مرآة تعكس ما يحتضنه ذلك العقل من فكر فيحكم عليه بالصحة والسلامة أو بالاعتلال من خلال النظر إلى تلك المظاهر الخارجية وموافقتها للصواب من عدمه» وموقفها هذا لإفساد أداة التفكير يعكس إدراكها بأن سلامة الفكر واعتدال المنهج ووسطية الحكم ستفضح دعوتها وتعري أهدافها لأن الفكر إن كان سليماً كانت مخرجاته كذلك. وإذا كان العكس -لا سمح الله- فإن مخرجاته ستكون وسيلة لخلق منغصات الحياة الإنسانية من عدم الأمن والانحراف عن الفطرة السوية ولهذا يكون جزاؤه كما قال تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) «طه 124 - 126» لأن كل المظاهر السلوكية والتصرفات التي تقع من الإنسان تمثل صورة لمحتوى عقله «والجزاء من جنس العمل» وربما دلت على ما أثر فيه من مؤثرات خارجية، سواء كانت صحيحة أو خاطئة، أو تراكمات سلبية، أو معلومات غير صحيحة أو مبادئ تفتقر إلى الاتزان والعدل والإنصاف والحيادية والتجرد في الحكم على الأمور، وتلك أمراض لها أسبابها وأعراضها، وفي الوقت نفسه فهناك أدوات وآليات وطرق لمعالجة تلك الأسباب والأعراض الناتج عنها مثل ذلك الانحراف والتطرف والغلو، على أن تلك المعالجة تحتاج إلى علم وكياسة وفطنة وصبر واحتساب، حتى تكون النتائج ايجابية. وإذا كنا رأينا في حاضر عالمنا اليوم أن الصورة المشوهة التي طرأت على الأمن المادي دفعت بأهل الحل والعقد إلى البحث عن أسباب اعتلال الفكر فتسببت في اختلال الأمن المادي، كما دفعت بهم إلى العمل على نصحهم، وتصحيح المنحرفين عن منهج الوسطية، وتوجيههم إلى نبذ الانحراف والظلم والغلو والتطرف، كذلك سعت بعض المجتمعات إلى تجلية العلاقة بين الفكر والأمن وتمتين تلك العلاقة وتوعية الناس بها، وهذا أمر طبيعي فإليهما يعزى ما يجري اليوم في العالم من صراعات ومشكلات، بصرف النظر عن أنواع تلك الصراعات والمشكلات وهويتها وألوانها وجنسياتها. وهذه الصورة الواقعية للترابط بين الفكر والأمن يدفعنا إلى توكيد الاعتقاد الجازم بأن العقيدة هي أساس كل شأن في حياة الإنسان وهي الميزان الذي توزن به الأمور والأعمال والتصورات فأي خلل في السلوك والتصور والفعل يسبقه خلل في المعتقد يتدرج هذا الخلل ويتدرج بتدرجه انحراف العمل، فالعقيدة السليمة تعمل بمثابة الحرس الذي يقوم على حراسة المنشأة من مهاجمة اللصوص والمفسدين وغيرهم وربما صورها الأطباء بمثابة كريات الدم بنوعيها تلك التي تهاجم ما يمثل خطراً على صحة البدن وتدافع عنه حتى تبقيه صحيحاً سليماً أو تلك التي تكّون الدم الذي فيه بقاء حياة الإنسان. سمو الأمير.. ايماننا بالترابط بين الفكر والأمن وتفاعلهما مع بعضها يجعلنا نقول لجامعاتنا وأساتذتنا فيها وأساتذتنا في مراحل التعليم العام إن مهمة الربط بين سلامة المعتقد الذي هو الفكر الآمن وبين الأمن الحسي هو مهمتكم ونطمع أن نرى ذلك ماثلاً في فكر أبنائنا وبناتنا وفي قولهم وتصرفاتهم. وخشية الإطالة أترك هذا لكم لأنكم أقدر مني على توظيف ذلك في مادتكم العلمية اليومية لطلابكم نعم إنها مهمة قد يظهر في أول الأمر أن فيها شيئا من عدم التوافق مع واقع بناء المناهج والمقررات الدراسية ولكنها بإذن الله سهلة عليكم. أما أنت أيها المواطن، أيها الإمام، أيها الخطيب في المسجد فإن الأمن أمنك والدار دارك فأنت المعلم والقدوة، وأنت العين الساهرة على حراسة عقيدتك وعلمائك وولاة أمرك ومجتمعك، أما أنت أيها المواطن المسؤول الذي وفقك الله فنظمت ندوة أو مؤتمراً أو لقاءً أو قدمت بحثاً فإنك تشكر على جهدك ولكن الكل يتساءل أين ومن يفعل تلك المقترحات والتوصيات إنها جديرة بالمتابعة والتفعيل لأنها عصارة فكر، ورؤية متزنة ولدت بعد بحث ومناقشة ودرس، إن الرسالة واضحة والهدف جلي والوسيلة سليمة ثابتة وحي الله سبحانه وتعالى إلى رسوله وتطبيقه صلى الله عليه وسلم لهذا الوحي وتفسيره وشرحه. سدد المولى القول والفعل وسلك بالجميع طريق النجاة.