لفتت نظري كثرة تعليقات القراء على مقال الأسبوع الماضي(العمال يستثمرون ، وأبناؤنا عاطلون) وكم أدهشني هذا التفاعل الذي يؤكد أن هؤلاء المواطنين بلغوا درجة من الوعي بضياع حقوقهم ، ما يستدعي أخذ ما يقولون بعين الاعتبار ، فهم المتضررون من قبلُ ومن بعدُ . وقد اتصل بي أحد الاقتصاديين بعد قراءة المقال قائلا : ما خفي كان أعظم ؛ هل تعلمين أن بعض المستثمرين الصغار من الوافدين ، كالمقاولين يقوم بتقدير ثمن ما لديه من أجهزة ومعدات ، وربما كان بعضها لا يستحق الثمن الذي قدرها به ، ثم يضاف التقدير للمبلغ الذي يقدمه للهيئة ؟ وما أسهل أن يستعير شيئا من ذلك فيدعي ملكيته ثم يعيده لأصحابه ، الاحتيال هنا بابه واسع لأنه لا توجد آليات دقيقة لضبط هذه المسألة !! وسأثبت هنا بعضا مما قاله القراء بشأن هيئة استثمار الأجانب : 1. إيقاف الاستثمار الأجنبي ولو لمدة مؤقتة لتقييم التجربة ، وحصره في المشاريع الكبرى التي تفيد البلد ؛ لأن الأسلوب المعمول به أصبح تحايلا على القوانين فهل هذه هيئة استثمار أم هيئة تمرير الأموال للخارج ؟ 2. نحن بحاجة لمستثمرين في حقليْ الغاز والنفط والطاقة والصحة والكهرباء وليس في الفول والحمص ومحلات البقالة وشركات المقاولات الوهمية والتستر وبيع التأشيرات . وستبقى أسئلتنا معلقة بانتظار أن يقف الملك نفسه على هذا الخلل الكبير الذي تمارسه هيئة الاستثمار لصالح المستثمرين الأجانب ، فهل نقول لا عزاء للمواطنين من هذا الاستثمار الذي يُروج له بشعارات براقة جوفاء ؟ أم نقول أملنا كبير في أن يصحح ملكنا العادل هذا الاختلال الذي نوقن أنه لن يرضى به 3. كان هدف المملكة من الاستثمار الأجنبي: نقل التقنية عن طريق الشركات العالمية وتدريب الشباب السعودي في الشركات العملاقة، وتوظيف أكبر عدد ممكن منهم لاكتساب الخبرة العملية والفنية وعادات العمل الصارمة وأخلاقيات المهنة والحرفية والجدية ، وأن يكون رأس مال الشركة كبيراً ومشاريعها ضخمة ... ولم يكن الهدف فتح الباب لمشاريع 100000ريال التي لا تضيف شيئا للوطن ولا للمواطن . 4. الحقيقة مرة ولا يمكن الخروج منها إلا بوضع قوانين صارمة تحمى المواطن . ولن نعرف خطورة الوضع حتى يطالب الأجنبي بحق الانتخاب في مجالس إدارات الشركات والبلديات ، وكذلك مجلس الشورى عندها سوف نعرف أننا ظلمنا أنفسنا ! 5. ما يسمى بالاستثمار الأجنبي هو تقنين للتستر التجاري وتجارة التأشيرات التي صارت ظاهرة لدى المستثمرين ، ولا يخلق إضافة حقيقية للاقتصاد الوطني ، بل مزاحمة لبعض المواطنين الذين حاولوا الاعتماد على أنفسهم بدلا من الانتظار في صفوف العاطلين عن العمل !!! 6. الهيئة تحول النجارين والسباكين إلى مستثمرين يستقدمون أقاربهم ويتاجرون بالتأشيرات . وكانت الهيئة العامة للاستثمار أصدرت تقريراً بإنجازاتها في السنوات الخمس الأخيرة ، وأظن أن أبرز ما جاء فيه هو : أن الهيئة استقطبت استثمارات أجنبية تصل إلى 143 ملياراً ، وأن زيادة الاستثمارات الأجنبية أسهمت في إيجاد 335 ألف وظيفة ، وصلت نسبة السعودة فيها إلى 27%. إنه إن سلّمنا بصحة هذه الأرقام ، فهذا يعني أن نصيب الأجانب من تلك الوظائف 73% أي أن الهيئة وفرت لهم 250 ألف وظيفة ، فهل بلغ حرصها عليهم هذا الحدّ ؟ وهو ما يؤكد أن المبلغ الذي تزعم أنها استقطبته ، سرعان ما يجد طريقه للخارج عبر تحويلاتهم ، مما يجعل هذا الاستثمار أرضا خصبة لهم ، ولم يحدث أن قام بلد في العالم بعمل كهذا لفائدة غير مواطنيه ، ولعل الهيئة تريح المواطنين المخلصين ، ومن يعاني البطالة منهم فتضيف لاسمها كلمة أخرى حتى تحول بيننا وتجرّع مرارة الأسئلة التي لا نجد أجوبة لها ، وهو الهيئة العامة للاستثمار الأجنبي . وكان الدكتور راشد المبارك كتب مقالاً في هذه الجريدة عنوانه : رسالة إلى معالي محافظ الهيئة العامة للاستثمار ، ضمنه كثيراً من التساؤلات التي ترد على ذهن من يقرأ ذلك التقرير ، إضافة إلى ما يخرج به من انطباع عن الكرم الحاتمي الذي يستمتع به المستثمرون من العمالة المقيمة أو الوافدة ، الكرم الذي يرسّخ مفهوم البقرة الحلوب التي تدرّ أرباحاً بالملايين على أولئك المستثمرين ، مما يفسر إقبالهم المتزايد على بلادنا ؛ فما يحظون به هنا لن يجدوه في أي دولة أخرى في العالم ! و فيما يخص الأموال التي تزعم الهيئة أنها جنتها من الاستثمار، يقول المبارك : " ... إن البيان لم يشر إلى ماهية طريقة دفع هذه المبالغ أي هل استُجلبت جميعها من الخارج لتكون إضافة إلى الاقتصاد المحلي ، أم انها جميعها أو أجزاء منها كانت موجودة لمستثمرين غير سعوديين يقال إنهم كانوا يختفون تحت أسماء شركاء سعوديين حينما كانت أنظمة المملكة لا تسمح لأجنبي بالاستثمار ... وحينئذ لا تكون هذه المبالغ جميعها أو أجزاء منها قد حولت من حساب المستثمر في الخارج إلى حسابه داخل المملكة ، أو جاءت كلها أو بعضها اقتراضاً من مصارف محلية فيكون احتمال الربح لهذه المصارف مساوياً أو مقارباً لاحتمال الخسارة " . وعلى هذا فما خسرناه من هذا الاستثمار لم يقتصر على الأموال بل تجاوزه إلى فرص سعودة الوظائف ، إذ يضيف المبارك إلى ما سبق من أن التقرير لا يوضح كيف أسهم الاستثمار في إيجاد 335 ألف وظيفة إذ ليس لكلمة ( أسهمَ ) " مدلولٌ محدد ، فقد يعني مطلقها أن المستثمر أو المستثمرين قد أوجدوا كل هذا العدد من الوظائف ، أو أسهموا بنصفه ، أو أن يكون إسهامهم لا يزيد على جزء قليل منه ! فهل اختار من صاغ الحديث هذه الصياغة للخروج من تبعة التحديد ، أم للغفلة عن دلالة الألفاظ ؟ " وكان طبيعيا أن يلفت هذا الرقم الخيالي في عدد الوظائف التي تزعم الهيئة أنها أسهمت في إيجادها، نظر ذوي العقول من المتابعين لإنجازاتها، ليتساءلوا كما تساءل المبارك عن الكيفية التي عالجت بها هيئة الاستثمار مسألة السعودة حتى وإن كانت لا تزيد على ربع العدد المذكور، وما الهدف من جلب كل هذه العمالة التي تفيض عن حاجة بلادنا ، مادام الاستثمار ليس " صناعة مركبات الفضاء ، ولا الصواريخ العابرة للقارات، ولا الطائرات الناقلة في حالة السلم أو المقاتلة في حالة الحرب ، ولا الحاسبات ذات التخزين الواسع ، فهل هناك ضرورة لإضافة ربع مليون وافد لملايين الوافدين ؟ لا يُستوفدون من أكثر البلاد علماً وتقدماً وخبرة ، بل إن الغالبية العظمى منهم يأتون من أكثر أطراف الأرض تخلفاً وفقراً ، أي أنهم يأتون فيرون أنماطاً من الحياة لم يألفوها وأنواعاً من الآلات لم يعرفوها فهم يأتون ليتعلموا لا ليعلّموا " ! وبهذا يؤكد المبارك ما قلناه وما يقوله كلّ المواطنين من أن هيئة الاستثمار تعمل لصالح المستثمر الأجنبي ، وأنها تمارس دور البقرة الحلوب التي لا تكفّ عن درّ حليبها في أفواه الوافدين ! وأنّ ما خفي كان أعظم ؛ إذ يتساءل : " هل هذا الرقم الضخم جاء نتيجة لموهبتنا الذاتية في القدرة على الإغراء والإقناع ، أم لأسباب أخرى منها تلك الأسعار المغرية لأنواع من الوقود تمنح لأولئك المستثمرين مما قلّ أن يجدوا منافساً لها في هذا المضمار، وقد لا يجدونه في أي مكان آخر ... ، وإذا كان يُجنى من هذا الاستثمار أرباح مغرية ، فلماذا لا يكون أهل الدار من الموسرين أولى بهذا الاستثمار بدل أن يرحلوا الأموال بالمليارات من الدولارات إلى البلاد الأخرى وبلادهم تبحث عن المستثمرين والاستثمار؟ " وفيما يتعلق بتحول المقاول الأجنبي الصغير إلى مستثمر أجنبي بعقود من الباطن ثم يحولها من الباطن لمقاولين آخرين ، ويسافر لبلده بملايين الريالات نظير عمل لم يمارسه إلا على الورق ، فإنك تدهش عندما تقرأ ما يبرر هذا العمل من أحد مسؤولي الهيئة عندما سئل عن قيام بعض المستثمرين بإعطاء عقود من الباطن لمقاولين سعوديين ، بقوله : " إن عملية الحصول على العقود من الباطن قائمة ومعروفة ، كما أن الشركات السعودية تحصل على العقود من الشركات الأجنبية " جريدة الحياة 4 فبراير 2010 ، ولاشك أن هذا التبرير لصالح المستثمر الأجنبي ، الذي جاء فقط ليجني قيمة المقاولة ثم يبيعها برقم فلكي لمواطن أو مستثمر آخر بمباركة الهيئة ، وهنا نتساءل ما الذي كسبه اقتصادنا من تاجر شنطة جاء ونافس مواطنينا القادرين ثم باع المناقصة ورحل ؟ وفي هذا الصدد يقول الكاتب داود الشريان لابدّ من " تغيير شروط قبول ما يسمى ب - شركات المقاولات الأجنبية - ... وربط دخولها إلى السوق بمقاييس عالمية ، بشرط ألا يقل رأس مالها عن 500 مليون ريال ، ومراقبة كفاءة الشركات التي تحميها هيئة الاستثمار بلا وجه حق وصولا إلى خلق منافسة إيجابية تدعم شركات المقاولات الوطنية ، وتسهم في نقل خبرات عالمية ترفع كفاءة هذا القطاع ... " ويرى أن هيئة الاستثمار تلعب دوراً ضد شركات المقاولات الوطنية ؛ إذ فتحت الباب على مصراعيه وبلا ضوابط أمام بعض المقاولين الأجانب الذين لا خبرة لهم ، فتمنحهم كل ما يريدون وتتغاضى عن مستوى خبرتهم ! ثم ينادي " بمراقبة عبث هيئة الاستثمار في قطاع المقاولات " ! يقيناً انه لا أجوبة مقنعة عما يساور المواطنين من تساؤلات حول آليات عمل هيئة الاستثمار ورؤيتها الاستثمارية فيما يعود نفعه في المقام الأول على الوطن والمواطنين ، وستبقى أسئلتنا معلقة بانتظار أن يقف الملك نفسه على هذا الخلل الكبير الذي تمارسه هيئة الاستثمار لصالح المستثمرين الأجانب ، فهل نقول لا عزاء للمواطنين من هذا الاستثمار الذي يُروج له بشعارات براقة جوفاء ؟ أم نقول أملنا كبير في أن يصحح ملكنا العادل هذا الاختلال الذي نوقن أنه لن يرضى به . * وقفة : أشكر جميع من تفاعل مع المقال من القراء ، ومن هاتفني أو راسلني على الخاص من أهل الاقتصاد ، كما أشكر طالباتي (طالبات الدراسات العليا في الجامعة) اللاتي اقترحن إنشاء حملة عنوانها : نحو هيئة استثمار سعودية سعودية . وأعدهن بالتفكير في ذلك .