تتعانق الرافعات مع الأبراج في مشهد عقاري يوحي بحجم الحراك الذي تشهده المملكة في مجال المقاولات، ويمتد هذا الحراك ليؤكد مع عمليات الحفريات والأرصفة والطرق مدى الدور الذي يلعبه المقاول المحلي في البلاد.. لكن قراءة أخرى لحال بعض المقاولين السعوديين تشير إلى حالة من السلبية ربما ينفرد بها المقاولون في الخليج عن غيرهم من مقاولي دول العالم.. ففي هذا الإقليم يتشكل قطاع المقاولات غالباً من شركاء محدودين أو أفراد استحوذوا على نصيب الأسد من كعكعة الميزانيات في البلاد، وحققوا ثراء فاحشاً دون أن يستفيد منهم أحد.. فقد لعبت الظروف الاجتماعية والأنظمة الرسمية دوراً كبيراً في تمكين المقاولين في المملكة من أن يظفروا بمشاريع بمليارات الريالات، إلا أن أسئلة كثيرة تدور حول دور بعض المقاولين المحليين تجاه المجتمع والوطن بدأت تبرز بشكل لافت خلال الطفرة الأخيرة .. ففي زمن بات فيه قانون المجتمع يسأل عما يمكن أن تقدمه الشركات في مجال المسؤولية الاجتماعية، يصعب على بعض المقاولين السعوديين أن يتفادوا الإجابة عن أسئلة كثيرة في هذا الاتجاه.. ففي هذا القطاع يتراجع الإيمان بالمسؤولية الاجتماعية كثيراً، وفيه كذلك تتراجع عملية التوطين لتكون في أضعف حالاتها بالرغم من المليارات المهولة التي تصب في جيوب بعض المقاولين. وتشير مصادر اقتصادية إلى أن حجم استثمارات قطاع المقاولات في المملكة يقدر بحوالي 200 مليار ريال، في ساحة يلعب بها أكثر من 120 ألف مقاول، ونحو 90 ألف شركة ومؤسسة، وحوالي الثلاثة ملايين عامل 95% منهم أجانب، وقد استحوذت مشاريع التشغيل والصيانة في الجهات الحكومية خلال السنوات العشر الماضية على ما نسبته 20 إلى 30 في المائة من الميزانيات العامة للدولة''، كما ارتفع نمو قطاع المقاولات في الأداء الاقتصادي من 2.2% نهاية عام 2008 إلى 3.9% عام 2009م. وكانت ميزانية المملكة للعام 2011 رصدت أرقاماً فلكية للمشاريع التنموية تجاورت 256 مليار ريال جلها من نصيب شركات المقاولات الكبرى، ومن المتوقع أن يصل حجم سوق المقاولات السعودية إلى نحو 300 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة بحلول العام 2015م. ترسية المشروعات على شركة عملاقة ثم توزع هباتها على «مقاولي الباطن» الدور الاجتماعي الغائب قلما رأى مواطنون بعض شركات المقاولات ترعى مناسبة وطنية، أو تتبرع لإنشاء مشروع خيري في البلاد، باستثناء حالات تُعرف سلفاً مقاصدها التجارية وأهدافها التسويقية.. ويأتي هذا العزوف من قبل هذا القطاع بالرغم من المليارات الهائلة التي يجنيها جراء مشاريع عملاقة في القطاع الحكومي.. فقد أشارت دراسة صدرت مؤخراً أن المنشآت العاملة في قطاع المقاولات والإنشاءات هي أقل الشركات تطبيقاً لبرامج المسؤولية الاجتماعية، فلم تتجاوز شركات المقاولات التي تقدم برامج للمسؤولية المجتمعية نحو 33% فقط من إجمالي الشركات العاملة في هذا القطاع .مما يشير إلى عزوف قرابة ال 70% من شركات المقاولات عن القيام بأي دور يصب في خدمة المجتمع.. يأتي هذا في الوقت الذي بات المجتمع ومن خلال مواقع الإنترنت يحاكم تلك الشركات، ويطالبها بمسؤولياتها تجاه المجتمع والوطن، كما أن مشاركات أو رعاية بعض تلك الشركات في المناسبات الوطنية تأتي غالباً استجابة لطلبات من جهات رسمية يصعب على تلك الشركات أن ترد لها طلباً. شركات الباطن تنفذ.. والعملاقة تجمع المليارات لا مكان للمواطنين قد يجد الكثيرون عذراً لامتعاض المواطنين من موقف شركات ومؤسسات المقاولات من مسألة توطين الوظائف إذا ما علموا أن نسبة التوطين في هذا القطاع الكبير من 1 إلى 5% فقط ، ليحل هذا القطاع في ذيل الشركات التي تعنى بتوظيف المواطنين، وبالرغم من أعذار بعض رجال الأعمال المستثمرين في هذا القطاع والتي تحتمي خلف شماعة أن عمل المقاولات يعتمد على العمالة، والسعوديون لا يريدون أن يشتغلوا عمالاً، إلا أن وظائف كثيرة في هذا القطاع يمكن للسعوديين شغلها قد خص بها المقاولون الأجانب هروباً من رواتب السعوديين التي يحسبونها عالية مقارنة برواتب تلك العمالة، لكن نظام نطاقات والذي قالت وزارة العمل أنها ستطبقه في 12 شوال سيضع الغالبية العظمى من شركات المقاولات في وضع حرج ،إذ يقدر مراقبون أن 5% فقط من شركات هذا القطاع يقعن في النطاق الأخضر ..فيما تشير مصادر الموارد البشرية في القطاع الخاص إلى أن أكثر من 70% من شركات المقاولات هي بالفعل في النطاق الأحمر، وكانت دراسات قد أشارت إلى أن 70% من شركات القطاع الخاص في المملكة لا توجد بها موارد بشرية مما يبرهن على تعثرها المستمر في برامج السعودة. يأتي هذا في الوقت الذي تشير المصادر إلى أن هذا القطاع يستقدم سنوياً ما يزيد على 600 ألف عامل من مختلف بلدان العالم، فقد كشفت نتائج بحث القوى العاملة في السعودية عن استحواذ العمالة الوافدة على أكثر من 2.814 مليون وظيفة في قطاع التشييد والبناء فقط، مقابل 202 ألف وظيفة يعمل بها السعوديون في ذات القطاع، وقد وصلت نسبة توطين 6.7%، فيما النسبة المقررة للتوطين حسب النشاط قبل تطبيق نظام "نطاقات" 10%. يذكر أن نظام نطاقات قد حدد أن نسبة التوطين 5% فقط للمؤسسات والشركات الصغيرة في قطاع المقاولات والصيانة تجعلها في النطاق الأخضر، بينما المتوسطة 6%، والكبيرة 7%، وكانت في السابق 10%. التعب على مقاول الباطن وأدى إنفراد بعض الشركات بالجزء الأكبر من كعكة المشاريع الحكومية إلى ترسية العديد من المشاريع على مقاولين من الباطن، مما أدى إلى اضطراب هائل في قطاع المقاولات، فقد أدت هذه السياسة إلى تعثر آلاف المشاريع في المملكة في خضم الإنفاق الهائل على مشاريع البنى التحتية..فقد كشفت تقارير تداولت في مجلس الشورى تعثر 2000 مشروع بقيمة 17 مليار ريال، في الوقت الذي قررت فيه أمانة جدة سحب أكثر من 26 عقد مشروع متأخر ومشروعين متعثرين ل 10 مقاولين بقيمة تقدر بأكثر من نصف مليار ريال، ويرجع مراقبون سبب تعثر المشاريع المرساة من الباطن إلى ضعف المؤسسات الصغيرة التي يرسي عليها المقاولون تلك المشاريع ، وقد أدى حجم المشاريع الحالية إلى توسع الشركات في إرساء المشاريع على مقاولي الباطن لتنفيذ هذه المشاريع، وتضطلع شركات المقاولة من الباطن مسؤولية كبيرة من تنفيذ تلك المشاريع حيث تنجز ما بين 60 إلى 70 % المشاريع التي تتعاقد عليها، ويخشى مراقبون من أن ينعكس ضعف مقاولي الباطن على جودة تلك المشاريع، حيث لا تتمتع تلك الشركات والمؤسسات ولا عمالتها بالكفاءة اللازمة التي تتواءم وحجم تلك المشاريع. المقاول الأجنبي هل هو الحل؟ قد لا يكون من الحكمة أن يطرح أحد فكرة الاستعانة بالمقاول الأجنبي في ظل المرحلة التي قطعتها المملكة من عمرها الحضاري، والتي يفترض أن تكون قد حققت من خلاله مكاسب اقتصادية تفي بحاجة البلاد في أمور شتى.. لكن واقع حال قطاع المقاولات في المملكة يدعو كثيرين لطرح ذلك الخيار، فإذا كان المقاولون السعوديون لم يفلحوا في توظيف حتى 5% من السعوديين بين موظفيهم، ولم يقدموا شيئاً يذكر في المسؤولية الاجتماعية، ويستقدمون عمالة غير مدربة تعيث بمنجزات الوطن وطرقه ومنجزاته، ويتسببون في تعثر مشاريع حكومية بمليارات الريالات، فإن مراقبين يقولون ماذا يضير لو تعاقدت المملكة مع شركات عالمية كبرى ومتخصصة، تأتي بفريق عملها، وتذهب به حين تنهي تلك المشاريع.. فكرة تثير حساسية متناهية لدى بعض رجال الأعمال العاملين في قطاع المقاولات، لكنها تثير في الوقت ذاته ارتياحاً كبيراً لدى من يعتقدون أن حجم الطفرة الأخيرة يتطلب أداءً مهنياً يرقى لتطلعات المواطنين والمسؤولين في انجاز مشاريع عملاقة تضاف لمنجزات المملكة؛ إلا أن تجربة حديثة ويتيمة خاضتها وزارة التربية والتعليم في التعاقد مع شركة صينية لبناء 200مدرسة قد أدت في نهاية المطاف إلى توجيه إنذار للشركة الصينية لتأخرها في تنفيذ المشروع، وقد حظي المقاول الأجنبي حسب تلك التجربة بما يفترض أن يكون تسهيلات تتضمن الاستثناء من نظام تصنيف المقاولين، والاستثناء من ضوابط منح التأشيرات، والإعفاء الجمركي لمعداته عند دخولها المملكة أو عند إعادة تصديرها، الجدير بالذكر أن قرار مجلس الوزراء والذي حدد الاستعانة بالمقاولين الأجانب في تنفيذ المشاريع الحكومية بعد أن يتم طرحها في منافسة عامة يشترك فيها المقاولون السعوديون والأجانب، مؤكداً على عدم ترسيتها بالأمر المباشر على المقاول الأجنبي.