يأتي مصطلح الأمية ليكون من أشد المصطلحات من حيث سوء الاستخدام، ويجري ربطه مباشرة بالجهل وتنسب إليه أسباب التخلف، ويجري دوماً الظن (التوهم...؟) بأن السبيل إلى التقدم هو في محاربة الأمية. وكم ننعي على أنفسنا في أرقام ونسب نتداولها حول نسبة الأمية العربية، ونظل نلوك الكلام موهمين أنفسنا أن هذا هو سبب تخلف العرب، وأننا لن نتقدم مادامت الأمية فينا بهذه النسبة أو تلك. هذا كلام أول ما نقول عنه هو أنه كلام غير صحيح، ثم إنه كلام لا يقرأ الواقع ولم يقرأ التاريخ، وأول صور الواقع هي الهند، ويكفي أن نتذكر الطبقية الاجتماعية والجهل والمرض وكثرة المشاكل حتى ليبلغ الأمر أن يفرز المجتمع طبقة من الناس لا يجوز مسها تعالياً عليها، وتبلغ نسبة الأمية درجات عالية حتى لتشمل مناطق كاملة بمجملها، وسنمضي بعيداً في القول عن هذه الأوضاع، ولكننا سنقول أيضاً إن الهند بلد متقدم علمياً واقتصادياً وديموقراطياً، مع وجود كل تلك العيوب، وهي عيوب تفوق ما عندنا بأضعاف مضاعفة. ثم نأتي لنقرأ شيئاً عن الأمم السالفة، وهي كلها أمم تطغى عليها الأمية، والفئة القارئة تاريخياً هي فئة قليلة جداً، وهذا حكم يشمل الأمم كلها، ونحن في زمننا الذهبي في العصر العباسي، كنا أمة من الأميين من الأندلس حتى الصين والقراء منا كانوا في مراكز محدودة، وبأرقام محدودة. ومع ذلك كانت الحضارة والترجمة ولنا دولة عظمى تغطي المعمورة في حينها. لقد انشغلت في فترة مضت بسؤال حول أرقام المخطوطات المتبقية في مكتبات العرب والعالم عن تراثنا العربي، وهالني أن الأرقام صغيرة فعلاً، وأنت لا تجد لمخطوطة ما سوى بضع نسخ هنا أو هناك، قد تصل للعشرات كأقصى حد، ولا تصل للمئات بأي حال، وحينما أقلقني هذا الرقم وصرت معه ازداد قناعة بأن أمتنا ظلت أمة أمية حتى في أزهى عقودها، وتبعاً لذلك تقوى عندي الرأي في أن الأمية ليست معياراً يصح القياس عليه للحكم على التقدم، ومن باب التأكد من سلامة احصاءاتي حول المخطوطات وأعدادها الصغيرة، فإنني تشاورت مع الصديق الدكتور عبدالعزيز المانع، الذي أكد لي صحة معلوماتي، وذكر لي أرقاماً لا تختلف عما وصلت إليه من أرقام، وهي كلها نسخ قليلة ومحدودة (وسأتوسع في هذه المسألة في مقالة تلحق - إن شاء الله -). ولو فرضنا أن سائلاً طرح فكرة الضياع والتلف والحرق، وتمثل لنا بحادثة سقوط بغداد على يد التتار، فإن الأمر سيظل على حاله، لأننا مازلنا نتكلم عن نسخ محدودة حتى في دمشق والقاهرة وبلاد الحرمين والأندلس، ومهما ضاع شيء من المخطوطات فإن المتبقي علامة على الضائع، والنسبة بين ثلاث نسخ من مخطوط ما في مقابل ما يمكن أن يكون قد ضاع منه ستظل في حدود ضيقة، ولن نطرح ملايين النسخ مقابل ثلاث نسخ، ونقول إن الملايين ضاعت والثلاث بقيت، ولكننا سنقول عن رقم يتقارب في تناسبه مع العدد ثلاثة أو عشرة. ثم إن الشواهد التاريخية تشير إلى حدود الواقعة الثقافية، فكل ما نعرفه عن ثقافتنا القديمة هو في بعض المراكز العلمية وبعض دور العلم وبعض المكتبات، وهي كلها تأتي في أرقام محدودة جداً، خمس مدن وسبعة مراكز وبضع مكتبات، وكل ذلك في بحر لجى من البشر المنسيين في كافة أصقاع مملكة العرب، ولأي واحد منا أن يسأل نفسه عن الجزيرة العربية والأناضول الأولى وشمال افريقيا وسائر بلدان الأندلس، ولن يجد حينئذ ذكراً لأي منها لا في مساجد كبرى ولا مدارس ولا رجال علم ولا غير ذلك. إذن... فنحن إذا تكلمنا عن مجدنا التليد فإننا نتكلم عن فئة نخبوية قادت الفكر والمعرفة وصنعت الثقافة وسط بحر مائج من الأمية، ولم يضرها ذلك، وما كانت الأمية سبباً للتخلف ولا سبباً لضعف حضاري أو علمي، بل إن الأميين هم من فتح المعمورة، ومازال ذلك قائماً، وكل جيش في العالم يتكون من نسبة عظمى من العاديين ويقودهم رجل أو فئة غير عادية وينتهي الأمر، هذا في الحديث مثلما هو في القديم، حتى لقد نشرت الصحف الأمريكية تقارير عن جنودهم وجاءت الاجابات مذهلة في جهل الجنود لمهمتهم وجهلهم بالبلدان التي يقاتلون فيها، وهذه حالة الجموع دوماً. ثم نأتي إلى ما هو أخطر من ذلك وهو أن الأمية ليست رديف الجهالة، كما أن القراءة والكتابة ليست رديفاً للعلم، ولكي أوضح ذلك سأطرح ثلاث جمل كاشفة هي: 1- امرؤ القيس أمي لا يقرأ ولا يكتب. 2- طه حسين أمي لا يقرأ ولا يكتب. 3- محمود درويش أمي لا يقرأ ولا يكتب. لو قلنا هذه الجمل بهذا التتابع، سنرى أننا نقبل بالأولى دون أن يترتب عليها تقليل من شأن امرئ القيس، وسنقول إنه أمي وهو لا يقرأ ولا يكتب من دون وجل، أما مع طه حسين فسنقول إنه لا يقرأ ولا يكتب، ولكننا لن نرضى بوصفه بالأمي، أما محمود درويش فإننا سنرفض الفكرتين معاً، ولو صحت إحداهما عنه فهذا سيقلل من شأنه، بينما لن يقل شأن امرئ القيس في الصفتين معاً. من هذه اللعبة الثقافية سنرى أن الأمية لم تكن شرطاً للثقافة عند امرئ القيس لأن عصره كان عصراً أمياً، ولكنه كان عصراً ثقافياً حتى لنجعله نحن المتعلمين نموذجاً يحتذى وكنا نرى أن من يحفظ شعره ويعرف سيرته هو المثقف النموذجي. وإذا جئنا لطه حسين فإننا سنسلم حتماً أن القراءة والكتابة ليست شرطاً للتعلم وهذا الذي لا يقرأ ولا يكتب هو عميد الأدب العربي في عصر يسمى بعصر النهضة والتحديث، ولكن هذا لم يمنع الأذن أن تكون مادة للتعلم، وفي حالته كان السماع هو المصدر للمعرفة، وإذا قلنا هذا فإننا سنقول حتماً إن كل سماع هو تعليم، وسيكون الأميون في كل مكان مؤهلين للتعلم والتحضر عبر السماع. وإذا عدنا لمحمود درويش فإننا حتماً سنحتقره لو ثبت عندنا أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وذلك لغلبة الظن الواهم عندنا بأن التعلم والشهادات هي العلامة على الثقافة ولا سبيل سواها، وهذا وهم معرفي وربما أقول إنه تجاري جرى تسويقه من أرباب المدارس وأرباب الكتاب من ناشرين ومؤلفين، وهم من يروج لفكرة التعليم والتعلم وحصره بشرط القراءة والكتابة ومن ثم الكتاب ومبيعات الكتب وانتشار عادة القراءة، ونمضي في ذلك من غير تمعن ولا روية، ولم نسأل أنفسنا قط ماذا لو تحول الشعب العربي كله إلى قراء وكتبة... هل سنغزو المريخ بهؤلاء الكتبة...؟ والأصح أن أقول: أنصاف الكتبة...؟!!! في كل التواريخ من يصنع الحضارات هم أفراد قليلون ويتبعهم جموع لا تحصى، والذي يغير هي الأفكار والرؤى الكبرى، وهي التي تحول البشر من الخمول إلى ا لفتوحات، ومثال أمتنا الأمية واضح للعيان، حيث تحول خمولها التاريخي إلى انفتاح عالمي ابتلع الجغرافيا والحضارات في بضع سنوات. إن كل حالة تدقيق في المصطلحات والمقولات تكشف لنا كم نحن خاضعون لما نخترعه من معان، وكم تتحكم المعاني فينا حتى لنقع في الأوهام ونحن نظن أننا نتحرر منها، لم تكن الأمية قط علامة على الجهل ولم تكن قط عائقاً حضارياً، وربما أجازف أكثر وأقول كم جنى العلم علينا من جنايات فأنتج الجهل والأمراض والحروب، وعلى المستوى الإنساني سنلاحظ حتماً أن الأمي طيب وبسيط وروحاني، بينما العالم يميل للتأدلج والعنجهية والتمذهب، وأخطر منه نصف العالم ونصف الطبيب ونصف الفقيه، كما هو القول المأثور عمن يقتل الناس ويلقى بهم في الجحيم. وسيكون لي عودة لمزيد من القول في الأمر وفي المخطوطات أفصل القول فيهما إن شاء الله. وإلى حينها فإني أطلب من الأعزة القراء والقارئات التأمل معي بهذا السؤال: هل لو تعلم العرب - كل العرب - القراءة والكتابة وخلصوا من الأمية تماماً.. هل سنغزو المريخ من الغد...؟!!!