في طفولتي كان أبي يصطحبني معه الى " الرياض "، نمر بين بيوت طينية عبر أزقة ضيقة تعلو وتهبط على راحتها، أو تلتوي رغما عنا وعنها لأن بيتا ترك موقعه وخرج يعترض العابرين, فلا مفر من الالتفاف حوله، وأظن أنه لم يكن ثمة سبيل الى الوصول الى السوق الشعبية الا عبر تلك الأزقة الضيقة التي لا تسمح بالمرور الا للسائرين على أقدامهم، بعضها كان يقود الى ممر أشد ضيقا وبعضها يفضي الى ساحة شاسعة تتناثر على أرضها سيارات قليلة. تغيرت تماما كل هذه الأماكن ولم يتبق من تاريخها الا أسماؤها وعبق محال أن يزول. أذكر أننا كنا نعبر جسورا صغيرة فوق ترع جافة، وأسأله: هل هذه أنهار جافة؟ يضحك ويرد: هذا " مجرى السيل " ، وأعود لسؤاله بسذاجة: وأين هو السيل؟ فيقول إنه لا يأتي دائما، ولكنه إذا جاء يهدد تلك البيوت البعيدة عن الطين، مع ذلك يتمناه ساكنوها -إن لم تخني الذاكرة- أظننا كنا على طريق الحجاز المفضي الى سوق عتيقة قبالة منطقة الخزان والشميسي ربما، ولم تكن العين تلمح هنا إلا البيوت الطينية باستثناء بناية واحدة غريبة في مدخل الخزان أطلقوا عليها " السفينة " ، ورغم جفاف " مجرى السيل "، كنت أشم رائحة محببة للمطر ما زلت أشمها حتى اللحظة، وحتى بعد أن أصبحت نظم الصرف الحديثة تخفي مسارات الأمطار تحت الأرض وتوجهها الى حيث نريد، وحتى بعد أن جثمت فوق صدور مجرى السيل كتل الأسفلت وبنايات تناطح السحب.. لا أحد يتصور أو يصدق أن ما طرأ على مدن المملكة وحوّلها الى واجهات حضارية تنافس أرقى مدن العالم رغم الابتداء من الصفر البدائي، قد حدث في سنوات لا تشكل إلا جزءا من عمر شاب – مثلك – أو كهل مثلي، تحولات لا تتم في بلاد أخرى الا بتعاقب القرون، لكن الغريب – وجرب أن تمر من شارع الخزان قبالة شارع العطايف والسويلم – أننا نشم في المكان رائحة السجاد والموكيت مضمخا برائحة العود التي كانت تنبعث من البيوت الطينية القديمة. مشهد مجرى السيل الجاف كان يحبطني كثيرا، فقد كان المطر يعني بالنسبة لي وأقراني أروع مناسبة للفرح، نجري ونتدافع في الأزقة والشوارع، يدفع أحدنا الآخر ليسقطه وسط الوحل ونضحك، نشكل قطارا لم نره مرة واحدة في حياتنا ونجري، ونعود الى البيوت بثيابنا كلنا بلون الطين..، الآن أفهم سطرا رائعا لبدر شاكر السياب في قصيدة " أنشودة المطر " : فتستفيق ملء روحي رعشة البكاء - ونشوة وحشية تعانق السماء .. نعم، فالمطر ليس فرح الصغار ولكنه أيضا استبشار الكبار بالخير والنماء والبركة، ورجاء ندعو الخالق عز وجل أن يمن علينا به في صلوات الاستسقاء.. هنا أقصد مباشرة " سيول جدة " وبعدها " سيول الرياض " ، وقبل ذلك أستدعي بدر شاكر السياب وأنشودة المطر: " عيناك غابتا نخيل ساعة السحر " . هل كان يتغزل في عيني محبوبته إن كانت " اقبال " زوجته أو غيرها، أم كان يتغنى بمحبوبته كل أرض الوطن؟ يرسم تشكيلا من كل مساحة العراق .. غابة نخيل في أقصى الشمال وأخرى في أقصى الجنوب تشكلان العينين في وجه آدمي جعله وجه الحبيبة ، ودجلة يرسم فتحة الفم؟ في كل الأحوال في الفن يستحيل أن نفرق بين الحبيبة الأغلى وبين الوطن الأعز، لكننا نسجل للرائع بدر شاكر السياب عبقرية اختياره ل " ساعة المطر " كلحظة تكون فيها العينان في أروع حالات التألق والالتماع والفرح. هنا، وبنفس الحالة للشاعر رأيت " عيني حبيبتي الأغلى والأعز " إحداهما في جدة والأخرى في الرياض .. أترك هذا كله دون أن أغيبه، وأقصد الى بيت القصيد كما يقال. المطر رمز الخير واليمن والبركات، وعلامة على رضى الخالق عز وجل خصوصا في بلد كبلدنا ليست به أنهار، وثروة من أغلى الثروات للانسان يختزنه رصيدا في باطن الأرض، جاءنا بهذه الوفرة مرتين في فترة قصيرة، أليس في ذلك اشارة سماوية على أن الرجل الذي يقودنا – حفظه الله ورعاه - من الصالحين المكرمين عند الخالق عز وجل، يرضى عنه فيكرم بالخير رعيته ؟ كثيرون تحدثوا عن أوجه للقصور.كلهم أغفلوا أنه خير يأتي من السماء ، طالما تمنيناه .