إذا كانت قصة حياة الإنسان هي أعظم رواية، فهي لدى كثير منا ممن كتب في سيرته الذاتية تأتي ملامح غير مكتملة، أو تتحرك بين طفولة محرومة ثم تنطلق لنجاحات وعناوين سخية. الإنسان الطبيعي يحمل نوازع البشر وإخفاقات البشر وآلام البشر وعذاباتهم. عندما وقعت عيناي على كتاب "عشت سعيدا"، لم أستمزج العنوان، ربما لعدم ثقتي بعناوين تبيع السعادة على أغلفة الكتب، ولإيماني أن السعادة وهج أو وميض من الصعب امتلاكه أو ادعاء بقاء شعوره الزاخر والمؤثر إلى حد أن يكون حياة ممتدة. ومن العنوان الفرعي "من الدراجة للطائرة" أدركت أن اللواء الطيار عبدالله السعدون سيحكي عن تجربته الخاصة، وربما يقدم سيرة من نوع آخر... لم اكتشف بعض ملامحها إلا بعد الصفحات الأولى من الكتاب. كان لدي انطباع ربما يقترب من تكوين الشخصية العسكرية التي تفتقد روح التحليق في عالم الكتابة لدرجة الاستدعاء لقراءة ممتعة. لقد تجاوزت الانطباع القديم الذي كرسته صورة نمطية لشخصية الضابط العسكري التي هي مزيج من عقلية التسلط والأوامر أو الحذر والكتمان الشديد أو القلق الذي يزرع المسافات. ومن حسن الحظ أني تعرفت على بعضهم بعد تقاعدهم من رتبهم الكبيرة فوجدتهم كائنات لطيفة وودودة، بل إن لي صديقا تقاعد عميدا اشعر أن قلبه قلب أنثى لا قلب عسكري تطغى عليه جهامة الأيام الماضية أو تربية الانضباط تحت ظلال النجوم الغاربة. وربما هذا يظهر أكثر عندما يستعيدون حياتهم المدنية. في الفصول الأولى لكتاب "عشت سعيدا" وجدت نصا متدفقا سلسا يصور بدقة وبراعة بيئة الحرمان والفقر واليتم. "عشت سعيدا" إذن هي تورية خاصة يتلبسها الكاتب ليقول لنا إن كل هذا التاريخ الطفولي البائس والمحروم لم يجعلني اشعر أني عاجز عن الإمساك بزمام السعادة، ولم يفت في عضد إنسان بدأت حياته باليتم لتمتد لتحقق نجاحات في كل موقع وطأته قدمه أو مارس فيه مهمته، وهو يحمل بريق الشعور بسعادة الانجاز. لم أكن أتوقع أني سأقرأ الكتاب كاملا، إلا أن شغف البحث عن أبعاد أخرى في الشخصية ظلت تستدرجني لعالم البحث عن المعنى. أعتبر القيمة الأكبر في كتاب اللواء عبدالله السعدون هي الإصرار على تحقيق النجاح والوصول إلى الهدف. وهو في كل فصول الكتاب يتحرك في إطار تبدو صورته واضحة تماما. إيقاظ همة شاب في أول طريق العمر ، واستعادة تجربة لبعث الأمل من أوصال التوقف أو الإحباط. وإذا كنت لست من النوع الذي تغريه العناوين العريضة لمواعظ النجاح، التي لا تعالج الأزمات بعمق ودقة لدرجة التوقف عند العوامل المهمة في تكريس حالة الجمود والعطالة، إلا أنني وجدت في الكتاب مادة شيقة وباعثة على التوقد في ذهن شاب مقبل على الحياة أكثر من ذهن متخم بالأسئلة الشاقة. الفصول الأولى، تحمل أهمية خاصة عن مرحلة غير مدونة في تاريخ سجل اجتماعي عناوينه الفقر والبؤس والفاقة وبدايات التحول. هذه المرحلة تشدني لاكتشاف ملامح إنسانية وعلاقات اجتماعية لم أرها سوى عبور على جسد المرحلة. أبحث عن الإنسان في سيرة تبدأ من بلدة لا يذكر الكاتب اسمها وكأنها من الأسرار العسكرية!! ليستدرك هذا بعد منتصف الكتاب ليقول لنا إنها "الغاط". مرحبا إنها "الغاط"... ألا تستحق الغاط أن يكتب عنها في تلك المرحلة حيا حيا، وواديا واديا، ونخلة نخلة؟ احتفي بذاكرة تكتب سيرة مدينة أيضا. أبدع الراحل عبدالرحمن منيف عندما مزج ذاته الأولى بسيرة مدينة ليصنع ذلك المزيج المدهش. القدرة التي يملكها الكاتب على التصوير الفني بقلم ينقاد له بسلاسة ودقة كم كان جديرا بأن توظَّف لتكتب بعض سيرة بلدة طينية لم يعد لها وجود. هناك جيل لم يعرف من الحياة سوى شوارع وميادين فسيحة، وبنايات شاهقة، ومظاهر وظواهر الوفرة التي لا تعني البقاء أو عدم الانحسار إلا أنها لن تعيد ذلك المشهد القديم لبلدة غافية في حضن جبل طويق. لن يعجز هذا القلم الذي برع في تدوين كتاب تجاوز 400 صفحة أن يكشف طبيعة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ، وبدء تسرب مراحل صبغها النفط برائحته وعوائده. لماذا القلق من ذكر الأسماء طالما كانت جزءا من تاريخ وحياة ذاكرة، لماذا يكون هذا عمي وهذا خالي وهذا ابن الجيران ؟ الأسماء شخوص حاضرة في الذاكرة وليست بطاقة هوية تُعرف بها. " عشت سعيدا " لم يخلُ من ذكر أسماء شخصيات حقيقية، فلماذا إذن التنويه في آخر الكتاب أن بعضها من نسج الخيال؟! من مرحلة تترحل بين طفولة يتيمة ومحرومة استلهمها الكاتب محرضا واستجابة لتحقيق أهدافه حتى القبض على ملامح السعادة... وصولا إلى مرحلة الدراسة في ثانوية اليمامة في الرياض. ثانوية اليمامة من أشهر معالم رياض الأمس، بقيت في عقل جيل يستعيدها ذكريات ونسيجا من علاقات. هذا الصرح التعليمي القديم الذي خَرّج طلابا ظهر منهم فيما بعد قيادات إدارية وضباط كبار ورجال أعمال... ألا يستحق التوقف قليلا وقراءة أبعاد مرحلة أثرت في توجهات جيل ورؤيته لما يدور حوله وانهماكه في نشاط يحمل أبعادا مختلفة ليست في وارد اهتمامات جيل اليوم؟ لدي شغف حقيقي أن أرى عملا خاصا حول "ثانوية اليمامة" . أثق أن ذاكرة جيل مازال على قيد الحياة هي من ذاكرة مرحلة كانت اليمامة الثانوية عنوانا أثيرا لديه. مرّ اللواء السعدون بحذر على مرحلة مهمة في تاريخ وذاكرة جيل، وهي مرحلة المد القومي عندما كان طالبا. كم تمنيت أن يُغني هذه المرحلة قراءة في عقلية جيل استلهم تلك المعاني وانهمك بها أو انصرف عنها. كم وودت لو قرأ برؤية وعين مراقب أو منهمك الحراك الثقافي حينها وتوجهات جيل بدأ للتو يستيقظ على معان أخرى لا يمكن تجاوز مرحلتها دون الإشارة إليها. يستعيد الكاتب كارثة غزو الكويت، وهي ذاكرة مهمة في عقل عسكري إلا أنها خلت من أية تفاصيل ذات أهمية. وأعتقد أن ثمة خطأ ورد في تاريخ غزو الكويت فهو فيما اعتقد كان في أغسطس1990 وليس 1991. الكتاب ليس سيرة ذاتية - كما يقول المؤلف – إلا انه يأخذ طابع السيرة بشكل أو بآخر. انه تفاصيل رحلة لا يمكن مقاومة الرغبة في استكمال ملامحها. وهي مزيج من سيرة ذاتية وعملية ، ورؤية خاصة بالنجاح وتحقيق الأهداف. إلا أنني أعتقد أننا بحاجة لقراءة ملامح حياة أخرى. رحلات ومشاهدات وانطباعات عالم اليوم قد لا تكوّن جديدا يضاف لسجل أي سيرة، كما أن المواعظ التي تتحرك في إطار سيرة تفقدها روح الاعتراف للذات وعلى الذات. أليس جميلا ومهما وباعثا على الدهشة أن نقرأ في سلّم تحولات ومراحل تتحرك خارج الذات وداخلها، تلتقط الصور وتحيلها قراءة ، تكشف عن آلام الإنسان وإخفاقه كما تعترف بنجاحه وعلو رصيده من تحقيق أهدافه؟ إذا كانت قصة حياة الإنسان هي أعظم رواية، فهي لدى كثير منا ممن كتب في سيرته الذاتية تأتي ملامح غير مكتملة، أو تتحرك بين طفولة محرومة ثم تنطلق لنجاحات وعناوين سخية. الإنسان الطبيعي يحمل نوازع البشر وإخفاقات البشر وآلام البشر وعذاباتهم ، السيرة الذاتية سجل حافل بالألم وليس بالضرورة أن يعانق النجاح أو يعذبه الفشل ، كما أن الظرف التاريخي أو الصدفة التاريخية يعلب دورا كبيرا في طبيعة تحولات حياة الإنسان بل والمجتمعات بأكملها. ولو ولد "انشتاين" في قرية صحراوية نائية وبعيدة عن مصادر العلم والمعرفة والفرص المتاحة، لبقي حتى آخر لحظة من عمره يجري خلف شياه قليلة، وربما اكتفى بمراقبة الطيور المهاجرة وهي تمر بقريته وهو عاجز عن اجتراح معجزة الطيران مثلها. إن هذه القراءة لا تعني سوى ميلي لاكتمال عناصر عمل كبير ورائع فاجأني بكثير من التفاصيل، وقدم رؤية لحياة أحترمها وأجدها نموذجا قلما يتكرر. ولولا أن اللواء عبدالله السعدون لا يكترث بالعين - كما يقول في كتابه - لقلت إن عناوين وفصول وسيرة الكاتب هي مثار حسد حقيقي. أتمنى للواء حياة مديدة مفعمة بالصحة والرياضة حتى يستعيد رغبته في كتابة تفاصيل أخرى .