أماه كفكفي وجعاً منغرساً في بيداء صمت أثار نقع حروفنا.. يا إكليل الغار، وزهرة الدفء، وأنداء الحنان! لا تجزعي حين تصهد الحقيقة، وتنصهر في عمق الواقع المرير.. كوني هنا.. كوني معنا.. كوني بنا.. شعور يخالجني، أنك عنا تهربين! أو أنه الايمان أخرس جند الكلمات وبه تتعلقين.. أم أننا مازلنا نتعلم أبجديات الجلد والثبات، نتهيأ لعراكات السنين؟ أماه.. الحب أنتِ.. الفخر أنتِ.. الحنان أنتِ.. الصبر أنتِ، ومنك تعلمناه، فلم لا تتجاوبين؟ الجميع يأتيك أسراباً متوجسين.. وكأن ثكلاً غيب النبأ الحزين! أماه.. ابشري.. وبشّري... فقد فارق الآلام، واشتاق السلام.. ودع الأوجاع، واختار الوئام.. إنه الإنسان الذي عمّق الإنسان فينا.. أوقدت سيرته ومسيرته نوراً في جوف الظلام! تأملي.. تأمليه! ففي تقاسيمه.. إجلال تسامح ووميض نور.. صوته، ضحكه، حنانه، وبياض قلب عب من عبق العطور.. ومن ابتسامته، وعطفه، ونقاء سريرته، يحفر في ذاكرتنا حكايا في سطور.. ومن صلبه حمائم نجوم تضفي على أجوائنا كل ألوان الحبور.. وأخت لنا سامقة محتسبة تهدينا إيثاراً، وتداري الدمع الطهور! أماه.. اصبري.. وصابري.. فنسائم الرحمة حفته حين أنهكه الطريق.. أطفأت قلباً أدماه لهيب وتلظاه حريق.. فوالله.. قد أشعل في أعماقنا صفاء دره من جنان قلب رقيق.. يرثينا هو قبل أن نرثيه ليضمد الجرح العميق! ومضت روحه رغم إيلام الصبر.. رغم الاغتراب، والمرض، وأوجاع السفر.. راثياً إيانا، وفي مراثيه عبر! راحلاً عن دنيانا بعميق الحزن، وأنين الرثاء.. جاءوا به يحملون النعش، تشاطرهم ملائكة الرجاء.. فلست أدري، أنحن في وداع أم نحن في أجل لقاء؟ بكيته يا أمي، فصاهرني البكاء.. حتى أن تبعته روحي في ارتقاء وارتقاء.. وبقبلة صافحت بياض جبينه، ببسملة، ودمعة، وأنفاس دعاء.. بنظرة أخيرة رسمته في بؤبؤ العين، ووشمته في أوردتي نقاء.. في نعشه سموق، تعلوه هالة من بهاء فاق البهاء.. فالاخوان تجمعوا، يرسخون حباً، ينحتون حروفاً من صفاء.. في موقف مهيب، تمردت العيون منا، وإنا -لمؤمنون حتماً- بكل قضاء! نعي يا جنة الدنيا من اختلاجاتك ابتهالك للعلي القدير الرحمن.. بأن يرزقه -إن شاء الله- عالي الجنان.. تمرغين صمتك بدمع تخفيه ثكلى في حشا حوى رجفات حنان.. ودع الدنيا بتمتمات يفهمها كل بار، محب، إنسان! بيد أنك -يا حبيبتي- تعتكفين في محراب الفقد، تمررين طعم محنة عظيمة، بكبرياء واصطبار.. تتغلغل دموعك جوف أرواحنا.. والزفرات منك صامتة حزينة تحمل في طياتها حزن السنين وكأنها زفرات انكسار.. تختزل ذاكرتك شريطاً من العمر يمضي في عجالة كساعة احتضار.. تلملمين برّه، عطفه، وحبه، تطوقينه في عنقك وأعناقنا عهداً من فخار.. بين ضلوعك -يا أماه- نطمئن بأنك تحلقينا كطوق من سوار.. أتعلمين أنه في آخر أيامه كان يتذكر أوجاعك، يهاب حزنك، وألا يرى منك دمعاً مدرار؟ وكأن كل هول مصابه، وأوجاع المدى، والأسقام، وهزيم السنين.. لا تعني في عرفه.. في وجدانه.. في بره.. أكثر من ذكرك في كل حين رغم صراعه مع الموت سراً أو جهار.. أواه.. ليته يطل علينا مرة أخرى.. لأعلم أنجالي كيف يكون البر مكشوفاً بلا دثار!