اتصل غاضباً يزمجر وفي نبرته مزيج من الرجاء والإلحاح والعناد، فقد وقعت الفأس في الرأس ولم يعد أمامه سوى أن يعترف بأنه ارتكب خطأ بتهاونه واستهتاره بالأنظمة. يجادل كثيرا، ويعتبر الأنظمة غير منصفة تستهدف الفقراء وعامة الناس ذلك أنها هذه المرة مسته بشكل مباشر، وكأن الأنظمة والقرارات التي تنظم حياة الناس تسن من أجل مصلحة أو إلحاق الضرر بشخص بعينه. يقول كل شيء بدون تحفظ وكأنه الملاك الذي نزل لأرضنا بالخطأ، ويتهم الآخرين بالتقصير وأنهم يخدمون مصالح أناس محددين ولا يعملون من أجل المصلحة العامة. ويصر على أن يتكلم أكثر مما يسمع ولكنه في نهاية المطاف لا يجرؤ على الاعتراف بأنه أخطأ بعدم التزامه بالنظام عندما كانت الأبواب مشرعة، وعندما أوصدت جاء محتجا على النظام الجديد لا نادما على تفريطه في النظام السابق. العلاقة بين المواطن والحكومة تسير في قناتين أساسيتين هما واجب المواطن تجاه مجتمعه وحكومته ومن ذلك تطبيقه الطوعي للأنظمة والتعاون في فرضها بما يسهم في قوة ومتانة مؤسسات الدولة ، أما القناة الثانية فهي الخوف من تبعات مخالفته للأنظمة والقوانين التي تسن لتنظيم شؤون المواطنين والمقيمين وحفظ حقوقهم. وإذا اختلت قناة من القناتين ولّد ذلك مشكلة في تطبيق النظام واحترامه، فكيف إذا اجتمع مواطن مستهتر أناني لا يفكر سوى في مصلحته الشخصية مع رعونة في تطبيق النظام بحيث ينتفي عامل الخوف من تبعات مخالفة النظام وتتراجع هيبة الدولة؟ إن غياب ممارسة الواجب تجاه المجتمع والحكومة، واطمئنان الناس إلى سلامتهم من العقاب في حالة عدم الالتزام بالنظام أوجد جرأة عجيبة على التلاعب بالأنظمة والعمل على التملص منها بأية طريقة سواء أكانت مشروعة أم غير مشروعة ، وروج لبيئة من الفساد الإداري تشرّق به الشائعات وتغرب، وقد لايكون بالصورة السيئة التي تلوكها الألسن ولكنها شائعات كفيلة بزعزعة ثقة المواطنين في سلامة الإجراءات وعدالتها. بل إن الامتثال لما يسن من أنظمة وإجراءات يعتبر عند البعض ضعفا لا يليق بمن لديه واسطة أو وهبه الله بسطة في الجيب أو اللسان بحيث يستطيع مداومة زيارة المسؤولين ومكثَ أياما وليالي يراجع، ويدفع الرشاوى ويتوسط بكل من يعرف من أجل أن يخالف النظام أو يستثنى منه. بالاستجابة لتلك الضغوط السلبية نكون قد تجاوزنا النظام، وشجعنا مواطنا غير صالح على الإساءة لأدوات لا تستقيم حياة المجتمعات إلا بها ولا يتم التحول المؤسسي إلا بالمحافظة عليها وتنميتها. تعزيز ثقافة الجرأة على النظام هي أخطر مايواجهه المجتمع وهي العامل الأهم المعيق للتنمية، كما أنها من المبررات التي تستخدم لتشويه صورة الإنجازات والإساءة للحكومة. إنها هدر للمال والجهد، وتكريس للجهل والتفاف على المنجزات الوطنية وتراجع عن عملية التحديث.