لا أعتقد أن هناك كاتباً يصدر ثلاث روايات على مستوى جيد في تقويم الناقدين قبل القارئين ولا يرافق ذلك بالتصاريح المدوية عبر الوسائل الإعلامية المنتشرة إلا أن يكون واثقا من عمله وتركه ليتحدث(العمل) عن نفسه ويحقق مكانه الملائم له دون أن يتسلح صاحبه بالمساحات الإعلانية في الساحة الثقافية مدللاً عليه بالوسائل المتعارف عليها عند مروجي السلع الاستهلاكية بغية كسب أكبر شريحة من المتسوقين والمقتفين من المطبلين من قراء السماع المرددين لما يقال دون عناء قراءة العمل ، ومن ثم التحدث عنه بما يستحق حسب درجات التلقي ، فالواثق من عطائه يقدمه دون واسطة أو غطاء تسويقي لأنه يعي بأنه قد عمل ما كان يجب أن يعمله على قدر إمكاناته وحسب تجربته في هذا المجال . هاني نقشبندي أصدر ثلاث روايات في فترات متقاربة بدأها برواية اختلاس ، ثم سلاّم ، وأخيرا ليلة واحدة في دبي ، وقد جاءت الروايات الثلاث في موضوعات مختلفة أملتها الأحداث التي سجلها في مخيلته الروائية ليقدمها مكتوبة باحترافية لافتة صاحبته من الرواية الأولى وهي التي دشنت عنده الحالة الكتابية في هذا المجال الذي أصبح سائدا في الساحة الثقافية العربية كإعلانات عن مسار جديد تبعا للمتطلبات البشرية التي تتوجه إلى السرد في هذه الآونة كفنٍ معبر عن حالة متطلبة للشبع منه كمغذ للروح في هذا الزمن ، وقد توجه النقشبندي إلى الساحة بنتاجه الذي تواصل في عملية تصاعدية أشارت بقوة إلى أن بمقدرته أن يقدم التنوع المطلوب ، وعدم الركود في مكان واحد ، بل هو متحرك في تناوله ، فهو في اختلاس غيره في سلاّم ، وفي ليلة واحدة في دبي يختلف عن الاثنتين لهذا ذهبتُ لتسمية العمل ب(الثلاثية الأخرى) لأنها لا تماثل الثلاثيات أو الرباعيات الروائية المعروفة مثل (ثلاثية نجيب محفوظ أو رباعية مدارات الشرق لنبيل سليمان ، ولا ثلاثية تركي الحمد ، أو على المستوى العالمي ثلاثية جان بول سارتر (دروب الحرية) ، أو رباعية الإسكندرية لرولانس داريل ، فالفروقات واضحة حيث ما أشرت إليه من أعمال كانت مرتبطة بخيط زمني وأحداث متنامية لشخوص تتكرر أسماؤهم عبر العمل متفاعلة مع الأحداث ، أما في روايات هاني نقشبندي فإن كل رواية لها أحداثها ولها أشخاصها ومناخاتها الخاصة بها ولكل منها استقلاليتها في تناول الحدث . ليلة واحدة في دبي : تؤكد على أن كتابة الرواية ترتكز على الإحاطة بالموضوع ، ومعايشته بشكل يوحي بالمعرفة التامة به سواء أكان بالاحتكاك أم عن طريق القراءة ، وتسجيل وقائع من الحياة المعاشة والتي هي إطار العمل الذي تدور فيه ، وقد تمكن الكاتب من تسجيل مايؤكد الجدية والاحترافية في سرد الرواية التي كانت متنامية منذ البداية حتى النهاية إذ تدفع بملاحقة الشخصية المحورية فيها لمعرفة ما ستنتهي إليه لوجود عنصر الخفاء ومخاتلة التجلّي في تماوج حتى النهاية ، وهذا ماتمثله شخصية (ياسمين) الوحيدة بعد أن كانت مع ، وما يجسده (أفتاب) حارس العمارة المليء والمفعم بالحكمة ، وحالة الطقس العام المكثف الممكن من معرفة بعض أسرار الغابة الحياتية ؛ ففي نهاية الرواية تتجلى صحوة الضمير لدى (ياسمين) التي كان المسبّب لها (أفتاب= الشمس) الذي كان بمثابة المنقذ بما يجيبها عليه عندما توجه إليه السؤال سواء أكان عابراً أم مقصوداً كما حصل لها مؤخرا عندما أخذت تتعمد السؤال لتلقي إجاباته ، فعندما سألته :أشعر بكلماتك عظيمة لكنني أستصعب فهمها قليلا؟ أجابها:(الكلمات العظيمة ياسيدتي تقول مانعرفه بالبديهة لكننا لا نسمع شيئا وسط الضجيج ..كل شيء له صوت يخبرنا عن ذاته لكننا لا نسمع حتى صوتنا نحن) فتتعمد أن تسأله في كل لحظة ترى أنها بحاجة له خصوصا عندما تتكالب عليها الانفعالات والأحداث ، فتكون إجابات تومض .. فلاشات تضيء للحظتها ولكنها تبقى علامة بارزة في طريقها حتى لو في داخل عقلها الباطن تفيض عند المواقف ، فقد قال لها مسانداً عندما فاتتها فرصة كما أخبرته : ( اعلمي أن الفرص عندما تضيع تخلق فرصا جديدة وراءها) فتكرر مرات أخُر في داخلها بعض الإجابات التي حفظتها (بعد أن علمتْ بأنه كان يعمل مدرساً في بلاده) : (الخيبات الكبيرة تخفي وراءها فرصا عظيمة . - لا يمكن للقلب الحيّ أن يبقى خاوياً. - قلب الصباح يصبح أكثر قسوة مع الأيام. - لن تجدي مطعماً واحداً في العالم له طاولة واحدة فقط. - اسمعي الصوت في داخلك. - الإحساس بالعدل معطَى للإنسان كي يحكم به على نفسه لا على الآخرين . وما دمتِ تملكين هذا الإحساس لن ترتكبي خطيئة الظلم). وماذا بعد؟؟ تبرز منتفخة بين وقت ولاحقِه وهي تجوب أبعاد المسافة الروائية من البداية إلى النهاية : (وماذا بعد؟؟) أصوات تتابع بين سؤال وجواب يلحقه في عملية تلاقح بغية إنتاج لكينونةٍ معرفية من الصعب تكاملها ، فلا شيء كاملاً في الحياة لأنها الحياة .. حركة كونية لا تقف أبداً. النقشبندي الروائي يذكّر بلازمات باولو كويلو التي تنتشر عبر رواياته كما في الخيميائي ، والزهير ، وحنا مينة في ثلاثيته: حكاية بحار ، الدقل ، المرفأ البعيد ، وميلان كونديرا مثل ما يجري على لسان الشاعر في روايته (الحياة هي في مكان آخر) وهي في نظري (= الرواية ) نقلة فاعلة في مسيرة روائيّ يُطلب منه المزيد من العطاء المتنوع ، وهو قادر .