أكد كثير من الفلاسفة والمفكرين على أن التحولات السياسية والثقافية مسؤولة في الدرجة الأولى عن تحديد هوية المجتمعات، بما هي سلسلة متشابكة من الأطر التي ترسم ملامحها وتميزها عن مجتمعات أخرَ ، فلم يعد الازدهار الاقتصادي وارتفاع مستوى المعيشة كافياً للحكم على رقي المجتمع وتطوره، بل لابد أن يصاحب ذلك تطور في الذهنيات القادرة على توظيف العامل الاقتصادي في ترقية الإنسان وبنائه بناءً حقيقياً. لقد نجح بعض المتحمسين في حصر المرأة في البعد الجنسي وتمكنوا من محاصرتها وضرب الخناق عليها، بتغييبها عن البعد الاجتماعي بصفة تتحدى أغلب النظريات الأنثروبولوجية في أن الحضور الجنسي يحتم الحضور الاجتماعي، وفي أنه لا تضارب بين هذين الوجهين اللذين يمثلان الواقع الإنساني منذ أقدم العصور! وفي هذا الموضوع نجد كثيراً من القضايا التي جعلوا منها قيداً تقيّد به المرأة باسم الدين والدين منها براء؛ بما هي تصورات واجتهادات مغلفة بغلاف الدين كي يضمنوا رواجها وعدم تغييرها ، حتى أن بعض المسؤولين عن أماكن تعليم المرأة وتوظيفها وتسوقها وترفيهها ، يتعاملون مع تلك الأماكن وكأنها محمية من المحميات الطبيعية التي لها شرائعها و قوانينها الخاصة بمعزل عن الشرائع والقوانين العامة . أوردت صحف الأسبوع الماضي عدداً من الحوادث التي شكلت المرأة قاسماً مشتركاً فيها ، وهذا أمر بدهي فلا يكاد يخلو خبر عن ممارسة عنف أو غيره من مثول المرأة كجزء أساس فيه! وكان الخبران الأكثر إثارة للألم والاستنكار: أحدهما يتعلق باحتجاز فتاة في أحد مراكز هيئة الأمر بالمعروف في منطقة تبوك وتعرضها للضرب والركل، ولم ينقذها إلا مسارعة المصلين إلى المركز عندما سمعوا صراخها( ولا عجب فهكذا تعامل المرأة في وطني من قبل من لا يقيمون وزناً لا لتعاليم الدين ولا للقوانين التي ترسم حدود صلاحياتهم )، ولذا فقد جاء قول أمير منطقة تبوك بأن " صراخ واستغاثة فتاة تبوك التي قبض عليها رجال الهيئة أخيراً ، واحتجزت في أحد مراكزها لن يذهب هباء " مطمئناً الناس بأنه ولّى زمن الصمت عن هذه التصرفات ، وأنّ هذه الفعلة لن تمرّ بسلام كما مرّ غيرها ، فلم يعد يليق بوطننا التساهل مع مرتكبيها، وقد صارت هذه الحوادث تنتشر في طول العالم وعرضه بعد دقائق معدودات من وقوعها ، لتوجه سهام النقد للوطن بأسره وليس لفئة عشقت التسلط وأدمنت الاستبداد ، وراقها غضّ الطرف عمّا تقوم به تحت مظلة قدسية الجهاز الذي تنتمي إليه ! يأتي تأكيد أمير المنطقة ليقول لهؤلاء وأمثالهم كفى انتهاكاً لكرامة المواطن باسم الدين الذي يتبرأ مما تفعلون باسمه، في إصرار عجيب على إقامة شرعكم ، وقوانينكم الخاصة بلا أدنى خوف حين ظننتم أنكم بمنأىً عن المساءلة ! إن عدم محاسبة هؤلاء ستعرض آخرين للموت خنقاً أو دهساً ، ولا شيء سوى العقوبة المغلظة التي تتساوى وحجم ما فعلوه جزاء رادعاً لهم وعبرة لأمثالهم ، فقد استمرؤوا استعباد بعض الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً، وما حدث يؤكد أننا نعيش في مجتمع ذكوري يتهاون في حقوق المرأة ، و يثبت أن بعضنا يعيش بعيداً عن تعاليم الدين، منعزلاً عن قيم الإنسانية التي تجرد منها ، مصرّا على غريزة التوحش وإقامة شريعة الغاب . وثانيهما يتعلق بموت طالبة في كلية المعلمات في جامعة بريدة ، حيث أخلت الكلية بواجبها في حماية أرواح من فيها من طالبات وغيرهن ، ضاربة عرض الحائط بالمفاهيم الدينية التي تكرم الإنسان ، وتجعل حياته أمانة في عنق المسؤول ، علاوة على تجاهلها القاعدة الفقهية التي تقول : الضرورات تبيح المحظورات؛ حرصاً على تثبيت مبدأ عدم اختلاط الرجال بالنساء ، حتى وإن أدى ذلك إلى موت الطالبة ، فهذا ليس مهماً، المهم هو عدم دخول الرجال على النساء ! ولعلنا ما زلنا نذكر حريق مدرسة مكة، وكيف أُعيق رجال الدفاع المدني ومنعوا من الدخول ، حتى تفحمت جثث بعض الفتيات وذهبن ضحية لمفهوم متخلف لا يقيم وزناً لحياة المرأة ! لن تكون هذه آخر الحوادث مادامت هناك عقول ران عليها الجهل ، وغلفتها سحب التخلف ، وسيطر عليها الخوف من فقدان المنصب إن هي قدمت مصلحة الفتيات على مفاهيم عفى عليها الدهر ! وهو ما اتضح في تبرير مدير العلاقات العامة من قوله:" إن الكلية كانت مكتظة بالطالبات" ! فهل كان ينتظر خروجهن ظهرًا ليدخل رجال الإسعاف كما يفعل رجال النظافة والصيانة ؟؟؟ لقد لابست هذا الحادث كثير من المخالفات والمغالطات من قبل مدير العلاقات العامة ، التي استاء منها أهل الطالبة وجعلتهم يقيمون دعوى لدى الإمارة التي وعدت بالتحقيق في موت ابنتهم ، أما الهلال الأحمر فقد بيّن الحقائق وكشف المغالطات التي حاولت بها الجامعة التغطية على تهاونها في إنقاذ الطالبة . إن الخطأ الذي قامت به الكلية هو منع دخول المسعفين عند وصولهم، وبعد أن تأكد موت الطالبة نقلتها حارسات غير مدربات لا يفقهن شيئا في الإنقاذ ؟ وهذا مؤشر خطير يجعل الآباء والأمهات والأزواج والأبناء قلقين على النساء في المؤسسات الحكومية والتعليمية، إذ لا شيء مقدم على سترهن وعدم اختلاط الرجال بهن ( يا للعار ) وليكن ما يكون ! كم من الانتهاكات بحق المرأة تفعل باسم الستر ( ألم يقل الناطق الإعلامي باسم هيئة تبوك إن وجود الفتاة في مركز الهيئة وعدم تحويلها للشرطة كان بهدف الستر عليها ؟!! / الرياض 4 إبريل 2010 ). إنه لا مفرّ من تشديد الأوامر بشأن الحفاظ على أرواح النساء التي غدت لا قيمة لها لدى بعض من يريدون أن يقيموا قانونهم الخاص في محميات النساء ، ولعل بعضكم سمع بحادثة الفتاة التي سقطت من حاجز الدرج المتهالك في الدور الثاني من مبنى مركز الدراسات الجامعية التابع لإحدى الجامعات في الرياض منذ سنوات ، ولم يسمح الحراس حينها لرجال الدفاع المدني بالدخول حتى جاء ولي أمرها فدخل معهم للحصن أو للمحمية النسائية ، الأمر الذي جعلنا نتساءل بمرارة وخوف ماذا كان سيحدث للطالبة أو لغيرها لو لم يجدوا ولي أمرها أو من ينوب عنه ؟ حتما ستموت المصابة قبل أن يتوصلوا إلى من بإمكانه الدخول محرماً لها مع رجال الإسعاف . ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد أوردت الصحف في الصيف الماضي خبراً عن احتجاز عدد من النسوة والأطفال في مصعد سوق نسائي في الرياض ، ورفض الحراس دخول رجال الدفاع المدني لعالم النساء ومحميتهن الخاصة ، وطلبوا منهم تعليم الحارسات كيفية إصلاح المصعد حتى تمكنّ في زمن لم يشعر بطوله وخطره إلا اللاتي كن داخل المصعد مع أطفالهن . ولا أنسى أن أذكر قصة الفتاة التي تعثرت وسقطت في أحد الأسواق التجارية الفخمة شمال الرياض ، وفقدت وعيها ، وأخذ الباعة والرواد يتأملونها دون أن يخفوا لإنقاذها ، حتى قامت إحدى السيدات بمساعدتها ، ولمّا استفسرت من مدير السوق عن تهاونهم في إسعافها ، أجاب لا نستطيع لمسها فهذه مسؤولية ، فقالت لماذا لم تطلبوا الإسعاف ؟ فأجابها حتى الإسعاف لا يحملها إذا لم يكن معها محرم !!! تصوروا مدى الاستهانة بحياة المرأة ؟ ربما لو تعرض حيوان لخطر لوجد من يتعاطف معه وينقذه . لهذا لابدّ حفاظاً على أرواح النساء من اجتراح آلية جديدة للإنقاذ ، تلزم بها كل الجهات المعنية من هلال أحمر إلى دفاع مدنيّ إلى سيارات إسعاف فيها ممرضات يباشرن إنقاذ النساء المصابات ، ويجب تزويد منسوبي تلك الجهات بتعليمات صارمة تقضي بعدم استئذانهم من أحد ، وعدم استجابتهم لتدخل بعض من لا يقيمون حرمة لحياة النساء ، والإعلان عن عقوبات تطبق على الرافضين ؛ سواء أكانوا أولياء المرأة ، أم مسؤولين، أم متحمسين دفاعا عن حصون الفضيلة التي يدكها المسعفون، ليرتدع الجميع ؛ ذلك أن بعضهم يؤمن إيمانا مطلقا بأنه خير للمرأة أن تموت من أن يباشر إنقاذها رجال ، وبعضهم الآخر يتردد كثيرا في إنقاذ المرأة عندما تتعرض لخطر ما خوفا من لمسها ، أو من اتهامه بها ، ولا أظن أن رجلا سويا قد يساوره أيّ شعور في تلك اللحظات التي يهب فيها لمساعدة امرأة في خطر سوى الشعور بمسؤولية إنقاذها، وحتما إنه ذات الشعور الذي كان يراود رجال الهلال الأحمر وهم ينتظرون السماح لهم بدخول المحمية التعليمية ، وليس الاستمتاع برؤية أكثر من 500 طالبة يعتريهن الخوف مما قد يحدث لهن لو استمرّ الإصرار على تطبيق قانون المحميات عليهن . من المحزن أن بعضنا لا يتعلم ولا ينفذ التعليمات إلا بعد وقوع الكوارث التي تدفع الضحايا ثمنها كطالبة بريدة، فقد سارعت مسؤولات كلية التربية في بريدة – حسب صحيفة الحياة – إلى السماح لمسعفي الهلال الأحمر بالدخول لنقل طالبة أصيبت بحالة هستيرية بعد علمها بدهس زميلتها أمام مبنى الكلية ! وهذا شأن بعض المسؤولين المتهاونين الذين يخالفون القوانين الإنسانية خوفا على كراسيهم ، لكنهم عندما يستشعرون العقاب يأخذون في تحسس رقابهم ! المرأة في مجتمعنا ضحية الثقافة المنغلقة ، وما تعرضت له الفتاتان في الأسبوع الماضي يعدّ انتهاكاً صارخاً لحقوق المرأة وامتهاناً لكرامتها وإنسانيتها، والصمت عليه يغري بتكراره وشرعنته وممارسته في اطمئنان إلى عدم المحاسبة والعقاب ! نحن بحاجة إلى تنوير المجتمع بكافة أطيافه ليمنع انتشار تلك السلوكيات والممارسات المشينة بحق النساء، تنوير يحول دون استغلال الدين لصياغة مبررات لا تستقيم و روح النص الديني ومقتضيات العصر ، ولابدّ لنا من التعامل مع الفكر المتشدد برؤى عقلانية منبعثة من حقائق الدين ؛ حتى نتحرر من قبضة المقولات التي يزعمون قدسيتها بطمسها وتنقية ذاكرتنا منها . أخيراً للنساء حق ٌ في الحياة ، فدعوهنَ يعشنَ !