تحظى المؤسسات التربوية والتعليمية بتفويض مباشر من المجتمع بكل شرائحه وأطيافه وألوانه الفكرية والثقافية على القيام بالعملية التربوية والتعليمية، لهذا ينبغي أن تكون مخلصة للمجتمع الذي ائتمنها على أداء رسالتها، فلا تخرج عن الأطر المرسومة، ولا تخالف ما ينبغي لها أن تفعله ، وأن تسخّر طاقاتها لحماية جميع من فيها لاسيما النساء ، لأن الذكور لا قيود تكبلهم فتحول دون خروجهم للشارع وقت الكوارث . لكنّ ما حدث في مدرسة (براعم الوطن) في جدة يكشف عن خمول فكري وسكونية باهظة وشيخوخة عاجزة عن التعامل مع الكوارث التي تتعرض لها النساء في المؤسسات التعليمية ، ما يؤكد أن المرأة ما زالت ضحية للثقافة القامعة والمنغلقة التي كبلتها منذ نعومة أظافرها. إنه لا مفرّ من تشديد الأوامر بشأن الحفاظ على أرواح الفتيات التي غدت لا قيمة لها لدى بعض من يريدون أن يقيموا قانونهم الخاص في محميات النساء ؛ وذلك باجتراح آليات جديدة للإنقاذ ، تُلزم بها كل الجهات المعنية إننا إذا اعتبرنا الجسد نظاماً من العلامات الدالة والمنتجة للمعاني ، فإن حركة الجسد النسائي بصفته تلك ، تعدّ إنتاجاً ثقافيا ًيخضع لطبيعة الثقافة التي يوجد فيها ، لذا فإن حجبه بعيداً عن أنظار الرجال إنما يدور حول نقطة رئيسة هي إرادة إقصائه عن الفضاء العام ؛ لأنه مصدر الفتنة وكل ما تقود إليه من آثام ، وهو في ذات الوقت عرضة لخطر النظر إليه والتحديق فيه ، فيجب حجبه حتى لو أفضى ذلك إلى موت محقق أو عاهات مستديمة. وهذا ثمرة من ثمار الدوغمائية بوصفها سلوكاً عصابياً ، ولأن بعض من يتولى العملية التعليمية دوغمائيون ؛ فإنهم يتسمون بسمات أبرزها قدرتهم على إقامة حواجز معتمة وأغلال سميكة وأسوار عالية في المؤسسات التعليمية النسائية التي يحكمون سيطرتهم عليها ، لذا فإنهم يتفاعلون مع الأحداث والكوارث من منطلق لا أريكم إلا ما أرى . وقد نجحوا بمساعدة بعض المتحمسين والمحتسبين والمنتفعين في حصر المرأة في البعد الجنسي ، فحاصروها وضربوا الخناق عليها، بتغييبها عن البعد الاجتماعي ، وفي هذا الموضوع نجد كثيراً من القضايا التي جعلوا منها قيداً تقيّد به المرأة بما هي تصورات واجتهادات مغلفة بغلاف الدين كي يضمنوا رواجها وعدم تغييرها ، حتى أصبح بعض المسؤولين عن مؤسسات تعليم المرأة وتوظيفها وتسوقها وترفيهها ، يتعاملون مع تلك الأماكن وكأنها محمية من المحميات الطبيعية التي لها شرائعها وقوانينها الخاصة بمعزل عن الشرائع والقوانين العامة . غير أن تلك المحميات تحمي الحيوانات النادرة من الانقراض ، أما المحميات النسائية فتشكل خطراً على بقاء النوع الأنثوي ! إنّ اختزال إنسانية الطالبات بسياج محكم من الشبهات والشكوك والمحاذير ، ليس سوى انحراف في النظرة التربوية التي لم تستطع استيعاب كون هؤلاء الطالبات أمانة في أعناق القائمين على تربيتهن وتعليمهن ! إنّ زرع بذور الثقة فيهن أولى من غرس أشواك الريبة والشك في نفوسهن ، بأنهن مجرد خطيئة تمشي على قدمين . وهذا ليس بالأمر الجديد ، فمنذ أنشئ تعليم البنات دأب القائمون عليه على اجتراح القوانين الصارمة ، وتعسفوا في تطبيقها حتى على الصغيرات، فإجبار طالبات المرحلة الابتدائية على تغطية وجوههن - مع أنّ ذلك مسألة خلافية - ولبس عباءة فضفاضة على الرأس ، أدى إلى موت عدد منهن تحت عجلات الباصات والسيارات فذهبن ضحية للحشمة المبالغ فيها ، وتبعاً لقانون الصرامة وضعوا للمباني المدرسية والكليات والمعاهد مواصفات خاصة لا توجد في سواها من المباني الحكومية ، فالنوافذ عالية جدا ، وتفتح للأعلى وليس للأسفل ، مع زجاج يحجب الرؤية عن الداخل والخارج ، وما كان منها في الأدوار السفلى فإنه يسيّج بالحديد ، والأبواب التي تفضي إلى السطوح - إن وجدت - غالبا ما يُحكم إغلاقها بسلاسلَ وأقفالٍ كبيرة ، ما يحول دون الصعود إليها في حال الحريق فراراً من الدخان والنيران ، أما أبواب ومخارج الطوارئ ، فمن المفاهيم النادرة نظراً لأن معظم المدارس عبارة عن بيوت مستأجرة لا صلة لها البتة بالمباني المدرسية ، ناهيكم عن الغرف الصغيرة المكتظة بالطالبات والدرج الضيق، وانعدام الممرات الواسعة والساحات الخارجية ، وكل هذا يضاعف الخسائر في الأرواح عند نشوب الحوادث ! وأما الأسوار فتتحدى أسوار السجون ارتفاعاً ، والبوابات واحدة لاغير ، يتحكم فيها حارس جاهل يُحكم إغلاقها بالسلاسل والأقفال عند ذهابه للصلاة أو إلى أي شأن آخر . ويبدو هذا أمرًا طبيعياً إذ لا يثير إغلاقها أيّ إشكال في أذهان القائمين على المدارس رجالاءً ونساءً ، أو لم يرد في لائحة " قواعد تنظيم السلوك والمواظبة لطالبات مراحل التعليم العام التي وضعتها " الإدارة العامة لتوجيه وإرشاد الطالبات " في وزارة التربية والتعليم في العام 2004 ( ولا أدري هل ما زال العمل بها ساريا ؟) أنه في حال خروج الطالبات ظهراً من البوابة قبل حضور سياراتهن فإن على حارس المدرسة المبادرة " بإدخال كل طالبة تقف أمام الباب قبل حضور ولي أمرها ... قبل ذهابه لأداء الصلاة في المسجد وترك باب المدرسة مغلقاً " ما يؤكد أنّ إغلاق الأبواب مفردة من أهم مفردات مجتمع الفضيلة ، ولا يشكل خطرا البتة على أرواح الطالبات والموظفات في تلك الأذهان المشغولة بهاجس الأغلال ! وصلاة الحارس في المسجد. لقد احتلت ثقافة التعتيم والتغطية والحجب فضاء واسعاً في وعي القائمين على تعليم البنات ؛ فعلاوة على المبالغة في إجبار الصغيرات على تغطية وجوههن بطبقات سميكة من السواد ، وإحكام العتمة على الجو العام ، فإن مما تفرّد فيه تعليم البنات هو طلاء نوافذ الباصات باللون الأسود لحجب الرؤية الخارجية عن الطالبات فلا يرين شيئا مما يقع خارج الباص ، ولا يراهن أحد من أهل الشارع . وهذا التعتيم يشكل أكبر خطر على الطالبات في حال تحرشَ السائقون بهن ، حيث توفر لهم العتمة جوا آمنا يمارسون فيه شذوذهم وانحرافهم ، وهي أولى من الضوء الذي يفتح أعين الطالبات على أمور ينبغي ألا تعرفها ! لن يكون حريق مدرسة جدة آخر الحوادث مادامت هناك عقول ران عليها الجهل ، وغلفتها سحب التخلف ، وسيطر عليها الخوف من فقدان المنصب إن هي قدمت مصلحة الفتيات على مفاهيم عفى عليها الدهر ! وهذا مؤشر خطير يجعل الآباء والأمهات والأزواج والأبناء قلقين على النساء في المؤسسات الحكومية والتعليمية، إذ لا شيء مقدماً على سترهن وعدم اختلاط الرجال بهن ، وليكن ما يكون! ولعلنا ما زلنا نذكر حريق مدرسة مكة، وكيف أُعيق رجال الدفاع المدني ومُنعوا من الدخول ، حتى تفحمت جثث بعض الفتيات وذهبن ضحية لمفهوم متخلف لا يقيم وزناً لحياة المرأة ! فهل تغير شيء بعد تلك الحادثة التي مرّ عليها عقد من الزمان ؟ إنه لا مفرّ من تشديد الأوامر بشأن الحفاظ على أرواح الفتيات التي غدت لا قيمة لها لدى بعض من يريدون أن يقيموا قانونهم الخاص في محميات النساء ؛ وذلك باجتراح آليات جديدة للإنقاذ ، تُلزم بها كل الجهات المعنية ، وتزويد منسوبيها بتعليمات صارمة تقضي بعدم استئذانهم من أحد ، وعدم استجابتهم لتدخل بعض من لا يقيمون وزناً لحياة الإناث ، والإعلان عن عقوبات تطبق على الرافضين ؛ سواء أكانوا مسؤولين أم محتسبين أم متحمسين دفاعاً عن حصون الفضيلة التي يدكها المسعفون ، ليرتدع الجميع ؛ ذلك أن بعضهم يؤمن إيمانا مطلقا بأنه خير للأنثى أن تموت من أن يباشر إنقاذها رجل ، وبعضهم الآخر يتردد كثيرا في إنقاذها خوفاً من لمسها ، أو من اتهامه بها. عندما يرفض الناس تصويرهم بالذئاب التي تتربص بالنساء ، فذلك هو الوعي الحقيقي الذي يزعزع تلك النظرة القاصرة التي تصم الناس بما ليس فيهم ، ولذا ينبغي أن تسارع النخب إلى طرح خطاب مضاد يعمل على تفكيك الأفكار المتزمتة والصور الذهنية الجاهزة التي تشكك في سلوك المواطنين وأخلاقهم ، بالتأكيد على أنهم ليسوا في الصورة البشعة التي يجري حشرهم فيها . ذكرت الصحف أن طالبات تسببن في حريق المدرسة ، لكن هذا لن يعفي المدرسة التي أخلّت بشروط السلامة ، فماذا لو نتج الحريق عن التماس كهربائي ؟ ألن تُساءل المدرسة وتُحاسب على إخلالها بأمن من فيها وسلامتهم ؟ ثم ماذا عن أولياء الأمور الذين يدفعون مبالغ طائلة لتلك المدرسة وغيرها ؟ ألا يحتجون ويطالبون قبل الدفاع المدني بضرورة اطلاعهم على شروط السلامة ؟ وهنا لا بأس من الاقتراح – من باب شر البلية ما يضحك - على ملاك المدارس الخاصة عندما يروجون دعائياً لمدارسهم أن يذكروا (أن فيها أجراس إنذار وطفايات حريق ومخارج للطوارئ ونوافذ غير مسيجة تسمح للطالباات بالقفز منها للشارع) . أما الحكومية فما على الأهالي سوى أن يحمدوا الله على أن هيأت الوزارة مدارس لأبنائهم وبناتهم ، وأن يبتهلوا إليه بكرة وعشيا : (اللهم لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطف فيه) . وهنا يجدر بنا أن نتساءل : كم عدد المدارس التي تفتقر لاشتراطات السلامة من حكومية وخاصة في بلادنا ؟ ألم يذكر الدفاع المدني أنه أوقف 22 (ترخيص سلامة) لمدارس في جدة لكنها ما زالت تعمل ، فمن سمح لها بذلك ؟ ألا يستدعى هذا محاسبة مالكيها إن كانت مدارس خاصة ، أو وزارة التربية والتعليم إن كانت حكومية ؟ وإذا كان هذا العدد في جدة فقط فما هي الحال في باقي المناطق ؟ ألا يدل هذا على الاستهانة بحياة من في تلك المدارس ، وينذر بأننا بإزاء حوادث أخرى قد لا تقل فداحة عما حدث في مدرستيْ جدة ، ومكة من قبل ؟ جميعنا يعلم أن عدداً كبيراً من المدارس في بلادنا حكومية وخاصة تفتقر للمعايير التي ينبغي أن يكون عليها المبنى المدرسي ، علاوة على أن جشع بعض ملاك المدارس الخاصة التي تتقاضى رسوماً عالية من الأهالي أفضى لأنْ يتكدس فيها عدد أكبر من سعتها ، هذا عدا عن المدارس التي لا تصلح أساساً للاستخدام السكني فما بالنا بالتعليم . لم نسمع يوما أن مدرسة أغلقت ، أو سحب التصريح من مالكها بسبب مخالفاته لشروط السلامة والمناخ التربوي ، وذلك لأن كثيراً من المنتفعين تسللوا إلى التعليم الخاص لأن المساعدات للمدارس الخاصة تُعطى بلا حساب وبلا مراقبة ، حتى صارت التجارة في التعليم أبسط وسيلة للثراء السريع الذي لا يتعرض لأقل حد من الخسارة ، فالدعم متواصل ، وأولئك التجار يعرفون كيف يسلكون أمورهم !