كتابة من الصعب تصنيفها، ومن المحال العثور لها على مدادها الخاص بها في كثير من الأحيان، ذلك عندما تكون الكتابة عن ترجمة حياة ربما عثر الكاتب لترجمته على مداد لكنه بحاجة إلى أوراقه الخاصة، التي تمتد بامتداد الأيام..تلك الأيام التي ترسم لوحة الإنسان الممتدة بين مراحل الصبا طفلا، فشابا حتى إذا بلغ أشده، قارب زوال الأيام ليدرك أصيل أيامها، وربما امتدت به ساعات الغروب إلى أرذل العمر، وحينها لن يستطيع أن يجد لا أداة ولا أوراقا بعد أن أصبح لا يعلم بعد علمه شيئا..ومنها كان ولابد أن يمتطي فارس الترجمة صهوة الأيام، ليعيد تدوينها مما وعته ذاكرته..وهذا ما استطاع أن يدونه عبدالعزيز بن عبدالله السالم في إصداره (ذكريات مما وعته الذاكرة)، الذي يقع في ثمان وتسعين ومئة صفحة عبر فيها مراحل حياته الإنسانية ماضيا يفد بأفكاره من القادم الذي لازال يضيف لحاضر الذاكرة وعيا، مما يجعل الكاتب قادرا على إدارة دفة تجربة حياته بوعي، اتسم فيه برؤية الحكيم إلى ما وعاه في الوجود الداخلي في ذاته تارة، وفي الوجود المحيط به عبر الزمان والمكان ومع الناس تارة أخرى. لايمكن أن يفارقك مذاق الأيام، ولا نكهة الشرفات التي تطل على تلك البلدة، التي ارتبط بها السالم، لكنه ليس كما عهدناه من الارتباطات عند أصحاب السرد في رواية هنا أو خاطرة هناك، وليس كارتباط شاعر يحاول أن يبني أفكاره على أطلال بلدته العتيقه، فالكاتب نفث من أنفاسه روحا رسمت على جدران بلدته انعكاسات رسمت مشاعره على أبواب ذلك المنزل الذي كان مقرا لأسرته ذات زمن، وعندما أراد أن يسرد لنا ترجمته داخل كونه السري وجدنا عبدالعزيز يدخلنا من كون إلى كون، فهدوء تلك البلدة لم يكن مبعثه مقاطعتها الضجيج الصناعي، لكن مرده اتكاؤها على تاريخ مجيد من هدوءين أولهما: حميمية تلك الأسرة التي مرت بها الذاكرة عندما سلكت محطة من محطات الكاتب تستنطق وتستشرف ما وعاه في آن واحد، أما الآخر، فهو ذلك الهدوء الذي سلكته بدايات الكاتب، وكأنه في تحد مع الذاكرة التي أسعفته أدواته بأن يظهر للقارئ ما وراء وعي الذاكرة، فالحياة لما تقف، والمكان امتد وتشعب في أغوار الحياة، ليضعنا الكاتب في مفترقات الوداع التي تداخل فيها وداعه لوالدته، بوداع الكثير من الأفكار في مدرستين أولاهما مدرسة الحياة التي تخرج منها السالم، والأخرى مدرسة لم يرتبط بها معرفيا، ولم يكن مقبلا على طلابها اجتماعيا. لقد قدم الكاتب جملة من الذكريات وكأنه (رحالة) يعبر بقارئه فضاء المجتمع حينا، ويعود إلى ظواهر إلى الحياة حينا آخر، مارا بالعديد من المحطات الإنسانية التي نجده يتخذ منه مسلكا لترجمة حياته، إلى جانب ما يقدمه من فضاء مفتوح لتلك البيئة الاجتماعية تارة، و(الزمكانية) تارة أخرى، وبين تنوع البيئات واختلاف المجتمعات تنبثق أحاديث الذكريات وكأننا أمام مشاهد تلفزيونية موثقة بالصوت والصورة، عطفا على ما دونه المؤلف مما وعته ذاكرته بوعي، وكأنه يبرهن على ما تستطيعه ترجمة الحياة أن تجيبنا عليه من أسئلة وتساؤلات عن النفس والناس، وعن المال والمآل..حتى وإن بدت انطباعا أمشجا تسبح في ذاكرة واهنة، بإلحاح وعي داخلي منها، أو بإلحاح صديق يحيط بها، ليحيط بها صديق لما يمر في صباه.