لم تكن مصافحة خادم الحرمين الشريفين لأعضاء مجلس الشورى مما يُطلق عليه المصافحة البروتوكولية. ولا هي من تقاليد البرلمانات العربية أو الدولية. الملك عبدالله عندما جاء على مجلس الشورى ليلقي خطابه السنوي لافتتاح السنة الثانية من الدورة الشورية الخامسة، ظهر يوم الأحد 21/3/ه1431 الموافق 7/3/2010م كان يحمل طموح وآمال كل السعوديين. جاء وهو يحمل تقريرا عن حصاد عام مضى، ويحمل خارطة طريق طموحة لعام يظلنا جميعاً. وهو -رعاه الله- صافحنا بعد إلقاء خطابه واحداً واحداً. ولاحظت أنه يشد على يد كل واحد منا. وهو بهذا يقول بلغة القلب ما تعجز الكلمات أن تقوله بلغة اللسان. قلت إن التقاليد البرلمانية لا تتطلب من رئيس الدولة أن يصافح أعضاء المجلس. أما عند الملك عبدالله فالأمر يختلف. نحن أعضاء المجلس في بيت سعودي كبير. والملك عبدالله رب هذا البيت. وهو صافحنا ليشد على يد كل واحد منا، وليؤكد بلغة الحال بعد أن أكد بلغة المقال: أن الأمانة والصدق والعمل والإخلاص، والمحافظة على الوطن، وخدمة المواطن، واستشعار المسؤولية هي مسؤوليات مشتركة، وهي مسؤوليات كبيرة. وليقول لنا كأب للدار السعودية: إنكم تشاطرون الحكومة المسؤولية الكبيرة. وهو نقل للشعب السعودي كله عبر أعضاء مجلس الشورى مسألة مهمة، بل هي في غاية الأهمية، تلك هي أهمية الكلمة وخطورتها. وهي جزء من كلمته الشاملة، أحببت أن أقف عندها. لأني رأيت الكثيرين لم يولوها ما تستحق، ولأنها صدرت عنه يحفظه الله في وقت استشعر فيه أهمية الكلمة وخطورتها، وما قد تسبب الكلمة غير المسؤولة أو المبنية على ظنون من تداعيات على المجتمع السعودي. ( أيها الإخوة الكرام: إنكم تعلمون جميعا بأن الكلمة أشبه بحد السيف، بل أشد وقعا منه، لذلك فإنني أهيب بالجميع أن يدركوا ذلك، فالكلمة إذا أصبحت أداة لتصفية الحسابات، والغمز واللمز، وإطلاق الاتهامات جزافا؛ كانت معول هدم لا يستفيد منه غير الشامتين بأمتنا، وهذا لا يعني مصادرة النقد الهادف البناء، لذلك أطلب من الجميع أن يتقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن يتصدوا لمسؤولياتهم بوعي وإدراك، وأن لا يكونوا عبئا على دينهم ووطنهم وأهلهم ) هذا نص ما قاله الملك عبدالله أمام مجلس الشورى. وهو نص لا يحتاج إلى توسع وتشقيق الكلام. وهو يعني أناساً تساهلوا في ( الكلمة ) كتابةً وقولاً. وهو يعرف من يعني، ولكنه خاطبهم حسب الهدي النبوي عندما يقول: ما بال قوم ( هكذا). وهذه -وأيم الحق- إحالة ذكية، هي قمة الأدب في مخاطبة الناس. وعندما سمعت هذا المقطع من خطاب الملك، انتابني شعور متدفق يدل على سمو أدب القيادة وحكمة القائد. وتذكرت قولاً لداهية العرب عمرو بن العاص. وهو : ( الكلام كالدواء إن أقللت منه نفع وإن أكثرت منه قتل ) وهذا صدق . والمعروف أن الكلمة أسيرة في وثاق الرجال، فإذا تكلم بها صاحبها صار في وثاقها. قال تعالى: ( وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن. إن الشيطان ينزغ بينهم. إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا) وقال الشاعر: وما من كاتب إلا سيفنى ويبقي الدهر ما كتبت يداه فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه وليس هذا الحديث دعوة للصمت المطبق، ولا دعوة لعدم النقد البناء، ولكنه دعوة للكلمة الصادقة. أو كما عبر عن ذلك الملك عبدالله بقوله: ( فالكلمة إذا أصبحت أداة لتصفية الحسابات، والغمز واللمز، وإطلاق الاتهامات جزافا؛ كانت معول هدم لا يستفيد منه غير الشامتين بأمتنا )، ونحن لا نشتكي من كثرة الصمت البناء. بل نشتكي من قلته، وكم يقتل الصمت فينا من أشياء. كلمات النقد السلبي المنطوقة والمكتوبة هي ما ينطبق عليها قول العرب: كم كلمة قالت لصاحبها دعني. وكان الملك يشير إلى أهمية تصفية الأجواء السعودية من أجل أن يتفرغ السعوديون للبناء والتنمية والتطوير. وهو يشير إلى خطورة شيوع البغضاء والحسد والحقد والتنافس غير الشريف. وهو يشير إلى ما ساد ويسود الساحة السياسية في العالم الثالث من مشاغبات شخصية تهدف إلى إثبات حضورها السياسي فقط. وهو لا يريد مثل هذا أن ينتشر بين شرائح المجتمع السعودي. كم هي الكلمة صغيرة في عدد حروفها، ولكنها تشكل فصولاً من حياة الإنسان. وهي كما تقول العرب في أمثالها: مقتل المرء بين فكيه. وهذا صحيح فكلمة واحدة يدخل الإنسان بها الإسلام، وكلمة واحدة يخرج الإنسان بها من الإسلام. ويتزوج بكلمة، ويهدم بيته الأسري بأخرى. وقرن الله الشرك به أن نقول بما لا نعلم. وما أكثر من يقول بما لا يعلم في زماننا هذا، وما أكثر من يتصدى للفتوى في العالم الإسلامي، وهو لا يعلم بخطورة فتواه. ذلك أن الفتوى كما يذهب ابن القيم هي توقيع من رب العالمين. فمن الذي يتجرأ ليوقع عن رب العالمين ! هذا المقطع من خطاب الملك الذي هو مدار هذا الحديث يحتاج إلى مراجعة متأنية من كل شرائح المجتمع السعودي. والملك اختار أن يعلن رأيه في هذا الوقت بالذات، وهو لم يتحدث من فراغ. لهذا أقترح أن يتولى كل مسؤول أو مفكر أو مثقف أو من يتولى الشأن العام أو يتعاطاه، أن يتولى هذا المقطع بما يستحق من عناية، وأخص خطباء المساجد، وكتاب الرأي، والمعلمون والصحفيون، وأخيراً من يتصدون للدعوة والإفتاء وغيرهم كثير. وأقول لهم أن يتقوا الله في الكلمة. وعليهم أن يأخذوا كلمة الملك عبدالله مأخذ الجد والعمل المخلص. فكلمة الملك عبدالله معبرة، وذات مضامين، وهي تشير إلى مشكلة عميقة، علينا أن نستجيب لدعوته، حتى لا نقع فيما حذر منه رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام. ( ثكلتك أمك يا معاذ. وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاّ حصاد ألسنتهم ). أو كما قال. والله أعلم