بعد إهانة الرئيس الفرنسي شيراك عندما زار القدس القديمة، ثم إهانة السفير التركي التي أجّجت المواقف بين البلدين، جاءت إهانة نائب الرئيس الأمريكي «بايدن» في إعلان إسرائيل بناء ألف وستمائة وحدة سكنية في القدسالشرقية، لترمي سهماً صغيراً في الجعبة الإسرائيلية، قد يكون جارحاً ولكن ليس مؤذياً عندما تحتج أمريكا على الصديق الذي يوضع في قمة اهتمامات الدولة العظمى.. الحكومة الأمريكية، وبّخت رئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو» وتبعها صوت أوروبي خجول يمازح ولا يخالف أو يطعن بالمناسبة، ولكنه يدعو إلى سلوك مهذب مع ساسة الدولة العظمى، وطالما تم الحجر على تقرير «غولدستون» الذي أثار إسرائيل وحلفاءها في الاعتداء على غزة، جاء قتل «المبحوح» في دبي، ليكون الصدمة الحادة، ليس لأن الضحية غير مطلوب للتصفية، بل لأنه كشف عن الوجوه والأرقام والأسرار الخلفية للعملية برمتها، وهو ما اعتبر سابقة غير عادية، جاءت هذه المرة من دولة عربية، وهو ما أثار مشكلة بناء وتخطيط وتنفيذ عملية أعدت بأعلى درجات الحذر، وتحولت إلى سخرية عامة. «أوباما» رئيس أكبر دولة في العالم من حيث الإمكانات، وإسرائيل بقيت على رأس اهتمامات كل رؤساء أمريكا كلازمة ثابتة في التأييد والتعاطف والتسامح مع أي سلوك ترى أنه يخدم خططها الأمنية، لكن إذا جاء التعامل بشكل يصل إلى حد الازدراء، فإن الموقف يتعدى التحالف إلى الهيبة والسلوك الأخلاقي، وإسرائيل تستطيع أن تبرر بأن تحوّل مصدر الإهانة إلى أحد مسؤوليها، وقد تقبل أمريكا الاعتذار، لكن تبقى المسألة الفلسطينية هي جذر المشكلة لا غصنها، وهنا إذا كانت أمريكا جادة وفاعلة وتريد كسب معركة أطول نزاع في المنطقة فعليها أن تطالب إسرائيل بمواثيق مكتوبة تترجم القرارات الدولية، وإلاّ فالعودة لمقترح الرئيس الفرنسي «ساركوزي» بالاعتراف بدولة فلسطينية، يجري بعد ذلك التفاوض على حدودها ووجودها.. أما التراشق بالكلمات الحادة، وما يعد بالعرف الدبلوماسي تجاوزاً لمنطق الأصدقاء، فإننا أخذنا منه جرعات كبيرة، ولم يعد يقنعنا أسراب الطيور القادمة من أوروبا أو أمريكا أو أعضاء اللجنة الرباعية، إذا كان كل مشروع مطروح مجرداً من معناه لأن خطوط القضية واضحة ولا تحتاج إلى صياغات جديدة فيأتي مندوب أمريكا ليقنع، ثم يتلوه نائب الرئيس أو وزيرة الخارجية، والحصيلة تغيير فقط في الألفاظ، ولا دلائل على التنفيذ، والرئيس أوباما هو المقصود بالإهانة، لأن وصوله للبيت الأبيض اعتبرته إسرائيل خطيئة تاريخية، ولأنه حاول أن يكون دبلوماسياً لبقاً، وليس دموياً يشعل الحروب، فإن هذه الصفات لا تتوافق مع الصقور داخل أمريكا ، ولا نسور إسرائيل ممن تتطابق أفكارهم معاً، وبالتالي إذا كانت رؤية أمريكا تحقيق أهدافها، فعليها أن تفهم أن كل من مارس الضغط على إسرائيل منذ أيزنهاور، مروراً ببوش الأب ثم كلينتون، استطاعوا على الأقل فرض هيبة حكوماتهم، وأوباما ليس مدعواً لأنْ يجامل العرب، لكن عليه أن ينقذ سمعته من الضعف، لأن حدود ما تفهمه وتمارسه إسرائيل هو أنها تتعامل مع أهداف لصالحها فقط، ولا يهمها حليف وصديق، وأمريكا أكثر من يعلم بحقيقة الممارسات الإسرائيلية وفي الحالة الراهنة نراها تعدت حدود اللياقة إلى التحديات السافرة، وهو درس لأمريكا إذا أرادت أن تستفيد من الدروس..