نوف بنت محمد ليست لأنها الأنثى وحسب، بل لأنها الأم والزوجة والصديقة والضوء والحرف والثقة والشغف والبوح والقلم، جاء إصدارها الثالث "لأنها أنثى..!" في طبعته الأولى لسنة 2010- عن دار الانتشار العربي – بيروت، حيث ملمسه الأناقة التي تُحاكي الأنثى التي استهدفتها نوف بنت محمد لتختصر كينونتها بحكم مُطلق على غلاف الإصدار ودون تردّد بالقول "لأنّها أنثى ..! " وهو عنوان لا يخلو من إسناد لذاكرةٍ ماضويّة يحدّدها اللون الأرجواني القاني الذي يختزل تاريخ الوجع في أعماق الأنوثة ودلالات أزمنة النزيف، وفي المقابل تتعقّبها الظلال التي تكتسح الهوامش، وتتوسطها صورة منسوخة لامرأة من ورق اللعب، وقعت على غرار الواقع في قبضة حانية في الشكل، آثمة في المضمون، وهكذا ومنذ الغلاف يصبح الولوج إلى عالم نوف بنت محمد، واعداً بمزيد من الكشف والاكتشاف، كعالم ثريّ بالتجربة، زاخر بالإحاطة، ملمّ، مشتمل، ومفعم بالرفض، محكوم بالغصّة والاكتراث، غصّتها هي، واكتراثها هي بأدق التفاصيل، لأنها ذات روحٍ صافيةٍ لا يمكن أن تشوبها الطلاسم، أو أن يعتريها الغبار، فتحرمها وإن لبُرهةٍ.. ميزة التفرّس فيما حولها، وميزة البحث عن الجدوى فيما تراه، وميزة توظيف كل ما تعلم وتدرك وتعي لخدمة الإنسانية المشتركة بين مختلف الكيانات، كيان العاشقة كما في "ثالثهما الفراق "، كيان الخائبة كما في " العرف أولى بالاتباع "، كيان الشامخة كما في "عقوق آخر "، كيان البريئة كما في "موت أبيض"، كيان المخدوعة كما في "أخوف من الخوف "، وكيان الطموح في كلّ حرف خطّته نوف بنت محمد الذي تنشده الكيان الأسمى ليسودَ كافة الكيانات الموازية، لأنهنّ بعض كيانها الراقي، الجموح. بدون ثرثرة فضفاضة وبدون مقدّمات تتوجّه نوف بنت محمد إلى حصّة ونورة السديري فلذتا نبضها لتعلن على الملأ، إهداء المجموعة "لأنها أنثى..! "، وبكثير من السلاسة والعذوبة والتودّد تختزل لهما رسالتها النبيلة، بعيداً عن الوعظ والتلقين والأستذة، حين تقول بصراحة ووضوح :"كونا معي دائما لتكون الحياة أكثر رؤيا "، وبدون أيّة إضافة تختتم لهفتها باسمٍ صريح لا تغلّفه أيّة ألقاب لتكون الأٌقرب إلى قلبيهما ووجدانهما ومسيرتيهما الشابّة الفتيّة. ولعلّ أبلغ ما يلفتُ في مَلكَةِ البوح عند نوف بنت محمد تلك اللغة المبضعيّة التي تُدرك بحنكةِ الأنثى موضع الورم لدى الآخر، فترسم له خريطة الوهم الذي يعيشه بأقلّ التفاصيل الممكنة، لتتفادى الوقوع في مطبِّ الثرثرة المؤدية إلى الهذيان فتوجز التشخيص على الشكل التالي: " سماؤه فقاعة.. سرعان ما انفقأت في كونه المعتم... ماردٌ... قادم من أقبية الشيطان من دروب الغواية... يقتحم الأزمنة العفيفة.. يتصيّد الأطياف الهائمة.. ثمّ يتجاهل النظر إلى المرآة!.." ومرآة نوف بنت محمد هنا هي الضمير الغائب عند رجل لا يقوى على مواجهة ذاته، ومحاكاة أفعاله، ومراجعة سلوكيّاته، ومساءلة تصرفاته، ومحاسبة نفسه، لهذا كان لا بدّ لنوف أن تُشهر قلمها من غِمْده، وتغرسه كمبضعٍ حاسم في صميم غطرسته الخبيثة على طاولة تشريح الصفحة 13. ولأنّ نوف بنت محمد تتقن لغة الاختزال والتكثيف، فهي تملك القدرة على ترويض اللغة لتصير طيّعة، سهلة، حركيّة، مشهديّة، و"حكّاءة "، بتفعيل دور المُضارعة بتواتر لا يخلو من التصعيد الدرامي داخل السيناريو الواحد، كما في المقطع الذي عنونته "الأجوف" حيث تتلاحق المُضارَعَة وتتعاقب في توازٍ وتوازنٍ حيويّ يضفي على المشهد رشاقة مضاعفة على ما فيها من تركيزٍ عالٍ، واختصارٍ لكافّة الزوائد اللفظيّة التي لا عمل لها، وكأنّ نوف تنفض من النصّ كل أشكال الحشو، ليكون صافيا كالماسّ، برّاقا كالكريستال الخالص حيث نتابع: يقتحم الأزمنة/ يتصيّد الأطياف / ثمّ يتجاهل النظر في المرآة..! هكذا وبتلك اللغة الرشيقة تضمن نوف بنت محمد استمالة القارئ دون تردد ودون عناء، تستجرّه صفحة تلو الأخرى بأنفاسٍ متلاحقة لا تعرف الملل بل تتمكّن منه، تُحاصره لتصادر ذائقته التي لا يسعها سوى أن تحفل وتحتفي بنصوص نوف، لتواصل عبر النصّ كل ما خفي فيه وما بطن، وما ظهر منه وما علن، مروراً باللغة الحسيّة الوصفيّة كما في الصفحة –25 - /ثمّ يخلع ثوب النفاق وينام عارياً.../، ولا تقف استطاعة نوف التعبيرية عن مكنونها الذاتي عند حدّ إذ تُفاجئك بلغتها الشاعرية السلسة التي تنتقل ببراعة من القصّ المشهديّ، إلى النثري الشعري الذي نلاحظه مترامياً بمهارة عالية على امتداد حقول نوف بنت محمد الأدبية الإبداعية، فتزهر قصائدَ تختلف عمّا سبقها من القصائد، وتثمر حكاياتٍ لم تشبهها سابقاً كلّ الحكايات، ويحار القارئ كيف لا يقع أسير اللغة الشاعريّة، التي تتبدّى ظلالها في الصفحة -21 – كما غيرها في إصدارها الجديد "لأنها أنثى " حين تقول: ( إلى الحنين الذي لا يغفو إلى الانتظار العالق في مفترق الوقت أحبّك لعمري ... فكنه معي جناحاك مدى من ندى وقربك غيمة تظلل طيفينا فلم أجد فنّ الحياة بدونك ولم أتوسّد الحلم لولاك.. ) هذه واحدة من زنابق نوف بنت محمد الشعرية وهي الشاعرة التي بدأت رحلتها الإبداعية بالشعر "النبطي " بمجموعتها الأولى "ظمأ "، التي تُطالعك فيها حرارة الإحساس وصدق العاطفة ودفء الشعور فتدرك من خلال السياق المكتنز بالبلاغة، وسحر البيان وضوح الرؤيا لديها، وربّما يتعذّر عليك التقاط البارقة الدلالية في بعض المفردات ذات اللهجة الغارقة في محلّيتها، وتظنّ أنه بحكم اللهجة المختلفة عن منظومتك قد يغيب عنك شيء من النص، وإذا بينبوع دافق يتفجّر عبر السطور ليقول لكَ أشياء وأشياء. ولا بدّ من الإشارة الى أن نوف بنت محمد وإن اختلفت لديها الأداة بين نثر أو شعر أو قصّ أو حكاية بين فصيح أو نبطي، فهي ولا شكّ قادرة أن تتشبّث بحريّتها في اغتراف ما تيسّر لها من اللغة التي تُشبهها و"تماهيها "، وتُؤرّقها وتلهيها، وتعصاها وتواسيها، وتنتابها وتحابيها، وتزاحمها وتواريها، وتنافسها وتغنيها، بكل ما في المفارقات من حُسْنٍ يظهر في الضدّ حُسْنُ، ونوف بهذا كلّه لا تبحثُ عن صفةٍ مطلقةٍ لتكونها، أو لتتكسّب من خلال الكتابة ودّ ناقد هنا، أو ناقد هناك.. وبإصرار واعٍ أو بدون ترفض نوف بنت محمد أن تخضع لصيغة أدبيّة تُحدّد لها تضاريس الرحلة إلى عالم الأدب أو الإبداع، بل تترك فيما تترك لجناحيها، اختيار المقام الشاهق ذي الاتّساع، دون جهل عمّا يتلطّى في القيعان من أشباه، تنتشلها مذمومة مدحورة من ظُلاميّة النفس والفكر والخيار، ولا تضنّ عليهم بحقّ الدفاع عن الذات تماماً كما تملك حروفها حقّ وأدهم خلف السطور أو التلاشي في غياهب الهوامش، كما في النصّ المعنْون "قناع " على متن الصفحة -23 – حيث تسلّط حرفها شاهداً على مراوغة الآخر إذ تقول: /بعد عناء يوم حافل بالزيف وبعدما قطع شوطاً في مغازلة الشمس، متشدّقاً بالإيديولوجيات والعقائد، بدا متجهّماً وهو يفتح باب عالمه مرتجفاً كسارق، تاركاً نظراته معلّقة على المفاتيح البليدة، ثمّ أقفل الباب خلفه بصريرٍ مزعج../ لا يمكن قراءة لأنها أنثى غير قراءة متأنيّة لكنّ المقام إن يتّسع لبضعة نصوص فهو بالتأكيد سيجحف حق النصوص الأخرى بالتقصير وهنا المعضلة إذ يصعب المفاضلة بين نصّ وآخر عند نوف بنت محمد فمعظم النصوص إن لم تكن جميعها أهلا للمرور عبر المجهر النقدي، إذ أنّ نوف بنت محمد لديها الكثير كي تشير إليه كأنّ تحجّم الرجل العابث مثلا بعنوان لافت ك"تفّاحة " حيث تختزل فيه مشهد الجدلية القائمة بين اثنين ينقصهما التكافؤ حيث الترف وحده لا يغطيّ كبرياء المرأة التي بوسعها أن تقول: "جاذبيّتك لا تكفي لإسقاطي ..." ، وهناك المجتمع الثرثار أخذت على عاتقها تعريته في سيناريو متكامل عن أم تكفّلت تربية وحيدها بعد رحيل الزوج فلم يكافئها ابنها بأقل من الإدمان ففضلت علاجه خارج مجتمعه على أن يُقال انه "تربية مَرَه " وهذه قصص من صميم الحياة ولبّ المعاناة التي تعيشها المرأة بمأساة مزدوجة أولها الخيبة فيمن تضع فيهم عمرها وجهدها وآمالها وثانيها نظرة المجتمع التي لا ترحم، وليست وحدها لغة نوف بنت محمد المعبّأة والمعبّرة هي الكفيل الضامن للاحتفاء بكافّة النصوص الواردة في المجموعة، بل هناك القضايا التي تطاردها نوف بأدق تفاصيلها الإنسانية وتعيشها كهواجس لا يمكن التغاضي عنها أو تحاشيها بأي شكل من الأشكال فتمررها إلى القارئ كرسالة عاجلة لا بدّ للجانح أن يُدرك جنوحه ويتّعظ بشكل أو بآخر وما أكثرهم، كما في "حياة مؤجلة " التي توجز الهدف بالقول: مات قبل أن يبلّغها/ ولو قدّر اقتناص هذه الجملة الداخلة في سياق النصّ لتنفرد على حده، فهي لاشكّ كافية لتقول ما ينبغي أن ندركه جميعا من حتمية الموت، وتساهلنا في الانتباه إلى كارثة اسمها المماطلة تتغلّب على قراراتنا ولهفتنا وإرادتنا عموماً. بصعوبة أجدني مضّطرة لأغلق باب محاكاة النصّ عند نوف بنت محمد مراعاة للإسهاب التي يتكامل مع حرص نوف على الاقتضاب في النصّ لامتلاكها كامل زمام الفكرة دون اللجوء إلى أيّة زوائد لفظية، يكفي القول أخيرا ان نوف الممتلئة بالمشاعر لم تستنزف مشاعرها لتعرب عن لواعج الأنثى كما هو شائع في الأدب النسوي في الغالب بل بدت في كلّ حرف خطّته المعنية والمشغوفة والمهجوسة والحريصة على مجتمع نقي متكافئ ومتكامل ومتوازنٍ ورصين، على مجتمع فيه الرجل رجل بكل ما تطمح إليه الأنثى، وفيه المرأة امرأة بوسعها أن تكون الأنثى الواثقة التي إن أعطت فما من مُستغلّ يتربّص بها، وإن أحجمت فثمّة آخر يعوّض تقصيرها، فهنيئاً لمجتمع أصبحت فيه الكلمة الحرّة كلمة هادفة بالاعتبار الأول وقد استطاعت نوف بنت محمد في مجموعتها "لأنها أنثى" أن تُحررها فعليا من المجانيّة التي شاعت واستفحلت في الأدب النسائي السائد، وتقدّمها بجرأة وجدارة يستحقها القارئ وينتظرها بالتأكيد.