خلال الأيام الفائته وربما حدث حريق في عدد من البيوت التاريخية في وسط جدة، أنه جزء من ضياع التراث الذي كنا تحدثنا عنه في الاسبوع الفائت، فنحن نخسر كل يوم مكاناً له تاريخ وجزء من ذاكرتنا العامة التي لها تأثير دون شك على هويتنا المستقبلية. النزاع الذي نشب بين المسؤول عن المدينة التاريخية في جدة (الدكتور عدنان عدس) والدفاع المدني، لا يغير من الواقع شيئاً بل إنه يزيد من الأمر سوءا، فمن هو المسؤول عن المحافظة على تلك المباني ومن هو المناط به متابعة ما يحدث وسط تلك الاحياء القديمة. مدينة جدة تستعد كي تسجل ضمن التراث العالمي مع منظمة اليونسكو ويفترض أن تبدأ عملية التسجيل هذا العام مع الدرعية القديمة، ولا أعلم ما سيكون عليه الوضع مع هذه الاحداث المؤسفة التي تتعرض لها جدة القديمة والتي يقول البعض إنها أحداث دائما تحدث بفعل فاعل، فملاك العقارات القديمة لايريدون لهذه العقارات البقاء ويريدونها أرضاً بيضاء لخدمة مصالحهم التجارية. نحن أمام صراع بين التاريخ (الذي يحمي ذاكرتنا الثقافية) وبين التجارة، فماذا يمكن أن نفعل. إنني أعلم أن الهيئة العامة للسياحة والآثار تحاول، وربما تكون المحاولة غير مكتملة، لكن الأمر يتعلق أكثر بوعي الناس وبتفاعلهم مع الإرث الثقافي الذي يجب أن يكون ضمن مسؤوليتهم. في اعتقادي أننا بحاجة إلى مزيد من تفعيل وعي العامة بقيمة المناطق القديمة ويجب أن نبدأ أولاً بإعادة الحياة لهذه المناطق عن طريق الاسراع في استثمار تلك المناطق ثقافيا وحتى سياحيا، وتحويلها إلى عناصر جذب وكسب مادي وعمل بدلًا من التوقف عند مشاهدتها كما هي. الحريق الذي حدث في وسط جدة هو مجرد مؤشر لما يحدث وما يمكن أن يحدث لكثير من المواقع التراثية المهمة التي هي جزء من مكتسباتنا الوطنية/الثقافية التي يجب أن نعمل جميعا على المحافظة عليها. قرأت في جريدة الأهرام (العدد 44855) مقالا مثيرا عنوانه "القاهرة والناس" كتبته (ليلى حافظ) تناولت فيه صورة القاهرة عام 2050م لكنها انتقدت الاهتمام بالمكان المادي وإهمال ما سيكون عليه سكان القاهرة في ذلك العام. تحدثت الكاتبة عن "نقطة الذروة" التي تناولها الكاتب البريطاني (مالكوم جلاوديل) والتي قال عنها إنها "تلك النقطة التي تعبر فيها فكرة ما أو سلوك اجتماعي أو توجه عام، حدا معينا، فيبدأ في الانحراف عن مكانه أو الميل عنه، ليغير اتجاهه وينطلق بقوة جديدة تدفعه إلى اتجاه آخر، وتبدأ تلك الفكرة أو السلوك الاجتماعي في الانتشار كالنار في الهشيم، بشكل مفاجئ وغير متوقع ودون تفسير، في تلك اللحظة يتغير الواقع ويتم إيجاد واقع جديد". لقد كانت الكاتبة تتحدث عن اليأس من الإصلاح الذي وصلنا إليه بعد أن تفاقمت المشاكل وتراكمت في مدننا، لكن هناك نقاط تحول ذاتية يمكن أن تصلح هذه المدن، فعندما انخفضت الجريمة في نيويورك لم يكن ذلك بسبب تشديد الأمن أو أن المجرمين قرروا عدم ممارسة الجريمة، بل كان نتيجة لقيام عمدة نيويورك على تنظيف جدران المترو وإصراره على التنظيف مهما عمل المتشردون، وبدأت بعد ذلك تشيع هذه الظاهرة وتضاءلت الجريمة بشكل لافت للنظر. ويبدو هنا أن الأمر اللافت للنظر هو "وقع المبادرة" التي يمكن أن تحدث تغييراً شاملاً لكن متدرجاً. تورد الكاتبة مثالاً يحدث الآن في مدينة القاهرة ،فقد قام مجموعة من الفنانين الشباب بتملك ورش في قلب القاهرة القديمة بين جامع عمرو بن العاص والكنيسة المعلقة التي تحيط بها العشوائيات القبيحة، وأعادوا بناءها بمعمار نظيف، لكنهم لم يكتفوا بورشهم بل مدوا أيديهم للبيئة المحيطة بعالمهم الجديد فقاموا بترميم البنية التحتية وأعادوا بناء واجهات المساكن المطلة عليهم وأضافوا لها رتوشا فنية حولت القبح إلى جمال. تقول الكاتبة "إن ما حدث في تلك البقعة من الحي القديم ليس فقط قيام مجموعة من الفنانين بمد أياديهم للفقراء، ولكن قيامهم بمنع العشوائيات من الوصول إلى داخل نفوسهم هم ،ومقاومة قسوتها وقدرتها على أن تنال منهم تماما". وفعلا نحن بحاجة إلى حماية أنفسنا أولاً من العشوائيات ومن الفوضى ومن الأنانية، فلا يمكن أن تنمو مدننا دون أن نتخلى عن جزء من "الأثرة" التي تطغى على سلوكنا. هذا النوع من المبادرة هو ما ينقصنا، فإذا كان بعض المثقفين عن وعي منهم قاموا ويقومون في بعض المدن العربية بنشر الوعي وصنع "نقطة الذروة" التي أشار لها (جلاوديل) إلا أنها محاولات معزولة ومتقطعة يبدو أنه لن ينتج عنها شيء يمكن أن يصنع تغييراً حقيقياً. المناطق التراثية لدينا تحتاج فعلا إلى مثل هذه الذروة "الثقافية" التي يبدأ بها المثقفون والفنانون والمبدعون والمعماريون من أجل خلق تغيير على مستوى الوعي على أن المناخ الاجتماعي العام غير موات بما فيه الكفاية لصنع هذه الذروة، فالمبادرات مترددة وقلقة وتتلفت للوراء لأنها غير واثقة مما تقوم به. حريق وسط جدة هو مجرد إشارة لأهمية أن نقوم بمبادرات لإنقاذ الذاكرة التاريخية وهو إنقاذ لا يصب في مصلحة الماضي الذي يراه جابر عصفور في مقاله بجريدة الأهرام (2 شوال 1430ه/21 سبتمبر 2009م السنة 134، العدد 44849) بعنوان "الفضل للمتقدم"، ينتقد فيه فكرة "السلف" و"الخلف"، على أنه مجرد فعل ويؤكد على أنه "تصاعدت هذه النزعة الماضوية في قرون الهزائم التي تزايد فيها الخطر الأجنبي، وتكاثرت الأزمات، وأصبح الوعي الجمعي العربي متوجعا من الحاضر الذي امتلأ بالمحن، وكان البحث عن الماضي وتبجيله الذي أدى إلى نوع من عبادة الأسلاف، هو الدافع المباشر لشيوع مبدأ "الفضل للمتقدم"، بل لأن الماضي مهم في قراءة المستقبل نفسه. المحافظة على المباني التاريخية ليس عاطفيا بل هو جزء من الاستثمار في المستقبل ورفض لغياب الذاكرة ورغبة أكيدة في استلهام الدروس منها وتنشيطها من أجل تنشيط شخصيتنا المستقبلية. إنها دعوة لإنقاذ قلب المدينة السعودية قبل أن يكف عن الحركة، فموت القلب يعني موت المدينة بأسرها.