تفاجئنا الكثير من الصدمات حول موقف ديني من مسألة اجتماعية اختلطت فيها المعرفة الدينية بالعادات الاجتماعية حيث يقف الكثير من أفراد المجتمع موقفا مضطربا حول اتباع أراء يقول بها من هم محسوبون على طلاب العلم الشرعي، فهناك قضايا كثيرة في مجتمعنا تحتاج إلى تجلية حول المرجعية الدينية للمجتمع وآليات تطبيقها واتباعها. في مجتمعنا نعبر في آرائنا عن ثقافة دينية متفاوتة في فهمها وخاصة أن الخطأ التاريخي لثقافتنا هو محاولة صناعة نموذج ديني واحد غير قابل للتغيير أو التعديل وأوجبنا تطبيقه على الجميع بنفس الصورة وهنا كانت الأزمة. نحن اليوم ومع حلول القرن الحادي والعشرين نعيش مرحلة تهتم بتغيير نموذج ثقافة دينية عشناها لفترات طويلة، ولكن هذا التغيير لا يجد طريقه في المجتمع بسهولة بل انه عمل كبير وشاق يشبه التعامل مع المضطرب نفسيا، حيث من الممكن أن يفاجئك بارتداد نفسي يهدم كل محاولات البناء التي عملت من اجل تغيير سلوكه وهكذا هي فتاوى الارتداد النفسي كما اسميها. ثقافتنا اليوم تتعرض لنفس المواقف فهي بحاجة إلى أن تتكيف مع معطيات التغيير ولكنها عاجزة في بعض عناصرها عن إحداث هذا التغيير وهنا تكمن مشكلات كثيرة مثل التحريم والتكفير والتفسيق والتصنيف والإخراج من الإسلام والدعوة إلى القتل، ولو نلاحظ أن كل هذه التعبيرات هي تعبيرات مصادرة فورية للآخرين ولا تحمل منهجية تمنح الآخرين حق الاعتراض أو الدفاع. لذلك تُفرض علينا هذه الآراء والفتاوى فرضا بدلا من أن تطرح لنا لمناقشتها على اعتبار أنها آراء تحتمل الخطأ والصواب ولكنها تفرض علينا على اعتبار أنها صواب قطعي وهذا مخالف لكل منهجيات الدين الإسلامي منذ اللحظة الأولى لانطلاقته. ما كان يفعله الرسول محمد عليه السلام لم يكن مجرد إصدار أوامر ونواه لقد كان يقر ويرفض ويستمع ويناقش ويصبر على كل شيء ويتحرى الدقة حتى انه صبر على الاعتداء عليه شخصيا في قصة صاحب البردة، بل إن هناك من تجاوز كل هذا ومع ذلك كان صابرا مناقشا متقبلا للآخرين يعد الناس بالجنة ويحذرهم من طريق النار بأساليب عكست روعة الإسلام الذي بقي كل هذا الزمن بروعته. الإسلام لم يكن ليصمد كل هذه السنوات لولا أن رسالته لكل البشر وكل المجتمعات والثقافات، ولكن ومع ذلك عاش بعض المسلمين فترات من تاريخهم في أزمة فلسفية اختلط فيها المفهوم الاجتماعي بالمفهوم العقدي بطريقة غريبة؛ فمن المعروف اجتماعيا أن المجتمع بقيمه وعاداته وتقاليده يتشكل وفقا لمنهجية تعكس موقعه الجغرافي والتاريخي والسياسي ويقوم ذلك المجتمع بتكييف الحياة الدينية من حوله مع بنيته القيمية حيث العادات والتقاليد الخاصة بذلك المجتمع . في مجتمعنا اعتقد جازما أن الكثير من القيم والعادات والتقاليد تشكلت في منظومتنا الدينية بطريقة موهمة لنا حتى أصبحنا نعتقد أنها جزء من التدين، والدليل على ذلك انك لا ترى الكثير من المظاهر الدينية لدينا موجودة في بقية دول العالم الإسلامي وهنا الأزمة التي يجب أن نتنبه لها ونوقف عمليات التعميم في ممارساتنا الدينية. السؤال الدائم الذي يقلقنا هو لماذا نحن نعتقد أننا المثال الوحيد الجدير بالاتباع بين المجتمعات الإسلامية من حيث التطبيقات المجتمعية للتعاليم الدينية....؟ ، نحن جغرافياً وسياسياً لدينا الحرمان الشريفان وهذه ميزة ولكن هذه الميزة لا تمنحنا حق تعديل السلوك الاجتماعي لبقية المجتمعات المسلمة، بل يجب أن تستجيب ثقافتنا الدينية للكثير من التغيرات وخاصة أننا بدأنا نكتشف ونحس أن هناك خلطا كبيرا بين عاداتنا وتقاليدنا وثقافتنا الدينية حيث لم يكن هذا الإحساس موجودا في السابق. يجب أن نكون واضحين في تعاملنا مع ثقافتنا فإذا كان الحجاب قضية عادات وتقاليد تخص بيئة اجتماعية فليكن لدينا الجرأة لقول ذلك والاعتراف بأنها من العادات وليس من العبادات، وهنا يجب عدم فرضها كقضية دينية على مجتمعات أخرى لها رأي مختلف. لقد تجاوزنا مسافات كبيرة في كثير من أحكامنا التي أجزم أن سببها عادات وتقاليد أكثر منها قيم دينية ووصل بعضها إلى مناطق خطرة في الثقافة حيث التكفير بسبب منهجية يختلف عليها العالم الإسلامي كله ومنها قضيا تخص المرأة. علينا أن نعترف أن عاداتنا الاجتماعية أصبحت جزءا من ثقافتنا الدينية وهنا تكمن الخطورة في التعامل مع القضايا الحساسة والحديثة في منهجنا الديني؛ فخطابنا الديني تشكل فيه العادات والتقاليد نسبة تفوق بكثير القيم الدينية الأصيلة. في مجتمعنا يسهل إطلاق كلمة حلال وحرام على الكثير من القضايا والسبب في ذلك ليس لقدرتنا العلمية في إصدار الأحكام ولكن لسبب آخر يتمثل في أن الإنسان بطبيعته يفهم ثقافته وحدودها وينشأ على هذه الثقافة الخاصة بمجتمعه منذ نعومة أظفاره ولذلك هو يستطيع أن يتحدث عنها ويترجمها إلى ممارسات وسلوكيات ، لذلك نحن نفتي من منطلق الثقافة المجتمعية وليس الثقافة الدينية في أمور كثيرة. لقد تم دمج معايير الثقافة وتركيبها على معايير الدين بمعادلة تاريخية غريبة وهنا أصبح الفرد منا لا يستطيع أن يفرق بين قيمه المجتمعية ، وبين المتطلبات الدينية فأصبحت عناصر الثقافة متاحة أمام الجميع ليطبقوا عليها معايير الثقافة الدينية ومنها على سبيل المثال حجاب المرأة ، واختلاط الرجال بالنساء ، ولبس النساء ، ولبس الرجال أيضا وطريقته ، والعلاقة بين الرجل والمرأة في الأسرة الواحدة ..الخ من القضايا التي أصبحنا نحتاج فيها إلى عمليات فصل تاريخية كتلك التي تجرى للتوائم. نحن بحاجة إلى ندوات وبحوث وورش عمل تفصل لنا بين العادات والتقاليد ، وبين القيم الدينية نحن بحاجة إلى أن نوقف إنزال الأحكام الشرعية على القيم الخاصة لكل مجتمع بل إن الإسلام هو الذي يستجيب للثقافة فكثير من أحكام الإسلام تستعير موقفها من العادات والتقاليد والأعراف وليس العكس ما لم تكن مخالفة بنص قرآني واضح. إن التكفير والتحليل والتحريم سوف لن تختفي من ثقافتنا ببساطة والسبب ليس علميا أو بسبب أننا نختلف مع تعاليم الإسلام فنحن من أكثر مجتمعات العالم التي تلجأ إلى الدين في تنظيم قضاياها الاجتماعية ، التكفير لن يختفي من ثقافتنا لأننا بحاجة ماسة إلى إعادة نظرتنا للإسلام بعيدا عن عاداتنا الخاصة ، ولو عرضنا قائمة بالقضايا التي نستند فيها إلى عاداتنا وتقاليدنا في مقابل التعاليم الدينية لوجدنا أنفسنا بعيدين عن ثقافة التدين التي ندّعيها . إن كل فرد منا مطالب أن يضع قائمة من الفروقات بينه وبين أي مسلم آخر من جنسية أخرى ليكتشف الصورة الحقيقية لإسلامه وهل هي مبنية على أسس مشتركة أم على قيم خاصة تؤثر فيها عاداته وتقاليده؟ لقد وصلنا إلى مرحلة يفتي فيها الكل بالحلال والحرام وبالقتل والتكفير ببساطة وباعتقاد من هذا أو ذاك بالعلم والمعرفة التامة وهذا صحيح ولكن أي علم وأي معرفة؟ كل أولئك الذين يفتون بالقطع في قضايا الحلال والحرام أو التكفير والتفسيق هم أكثر فهما لثقافتهم الخاصة ورؤيتهم هم للقضايا من خلال عاداتهم وتقاليدهم ومصالحهم بينما لا يدركون غيرها والدليل على ذلك أن من يفتي بقضية مثل الاختلاط في أمة يعمل رجالها ونساؤها جنبا إلى جنب منذ قرون بل منذ اللحظات الأولى للإسلام حيث تداوي النساء الجرحى في المعارك هؤلاء لا يرون سوى ما يحيط بهم وتمليه عليهم عاداتهم هم وتقاليدهم هم أنفسهم. المشكلة بكل وضوح تتمثل في اندماج عاداتنا وتقاليدنا بقيم دينية مشتركة تم تحويلها من قبلنا إلى قيم خاصة بجانب محاولات مستميتة لفرضها على كل المسلمين وهناك لب الأزمة، نحن مجتمع نفخر بإسلامنا ولكننا بثقافة وقيم وعادات وتقاليد مجتمعية تخصنا نحن وليس علينا تصديرها أو إصدار أحكام تتعلق بالدين عبرها وإلا سوف نعرّض الإسلام والمسلمين لخطر الفتوى، وهذه الرسالة يجب أن تصل إلى كل من ينذر نفسه مشتغلا بقضايا الدين فعليه أن يدرك أن الدين الإسلامي اليوم يعتنقه أكثر من مليار مسلم في أنحاء العالم لكل منهم ثقافته التي تميزه عن غيره عبر إسلام مشترك بينهم كلهم.