كيف يمكن للافتة منتصبة في مدخل شارع أن تتحول إلى أداة قتل من الدرجة الأولى؟.. فجأة قفز السؤال من مكمنه البعيد ليحتل تفكيرها طوال ما تبقى من مسافة الشارع الذي تقطعه نحو بيتها البعيد.. كانت اللافتة البيضاء بكلماتها الملونة مزروعة بشماتة وصلف متخيلين على هامش من تقاطع شارعين يؤدي أحدهما إلى البيت وكأنها وضعت خصيصا في ذلك الموقع البارز لتقرأها هي بالذات.. وقرأتها فعلا.. هي الغارقة في تخيلاتها وهواجسها اليومية، بينما السيارة تنساب في صهد الظهيرة بهدوء يليق بشارع مزدحم.. قرأتها أو ربما لم تقرأها بالضبط بل لمحت في وسطها اسم الرجل الذي يحتل الحدث المعلن عنه.. رجلها هي. لم تأت اللافتة المنتصبة بوضوح قاتل بأي جديد، فقد كانت تعلن عن حدث تعرفه هذه المرأة تماما ومنذ زمن بعيد، بل لعلها كانت تترقب موعده باطمئنان وثقة عاليتين، وتستعد لاستقباله بفرح يليق بمشاعرها تجاه ذلك الرجل المعني ويتناسب طرديا مع فرحه المعلن رغم اجتهاده الشخصي الدؤوب في إخفائه كلما تحدثا معا حول تفاصيل الحدث. ورغم إدعائها الكاذب أحيانا ان ذلك الحدث لا يعنيها كثيرا ولذلك لن تتورط بأي تعليق عليه، كانت تعرف أنه يعنيها وكان يعرف انه يعنيها، لكنهما معا كانا يمارسان لعبة مبهمة هدفها الوحيد حرص كل منهما على مشاعر الأخر.. وقد نجحا في ممارسة تلك اللعبة التي اخترعا تفاصيلها يوما بعد يوم بذكاء يميزهما حتى انتصبت تلك اللافتة الصاخبة أمام عينيها في تلك الظهيرة التي كانت تستقبل الربيع بطقس محايد لتكشف أوراق اللعبة المبهمة. لقد أيقظت تلك اللافتة البريئة المنتصبة بهذا الشكل السافر في داخلها وسواس رجيم لم تكن تعترف بوجوده أصلا في مخيلتها. كان هذا الوسواس الرجيم صغيرا جدا لكنه ظل يتنامي طوال الشهور التي سبقت الحدث المرتقب بصبر عجيب، ولم تكن تعرف أنها كانت تسقيه وتطعمه من مشاعرها وأحاسيسها كل لحظة من لحظات تفكيرها بذلك الرجل ما جعله ينمو وينمو وينمو ويظل كامنا في زاوية قصية من زوايا الروح بانتظار اللحظة الحاسمة ليقفز فجأة أمام عينيها الغارقتين بدمع غريب، ويمد لها لسانه ساخرا من بلاهتا ومعلنا عن وجوده الحقيقي. نعم هي الآن تبكي.. لكنها لا تدري لماذا بالضبط.. هل لأن اللافتة أخبرتها بما لم تكن تود الاعتراف به وهو أنها فقدت رجلها إلى الأبد باتفاق مسبق معه؟ هل لأنها كانت تنتظر أن تبكي فعلا وكانت تبحث عن سبب حقيقي يليق بذلك البكاء الحارق؟ أم لأنها اكتشفت كم هي غبية عندما ظنت أن كل شيء يسير في تلك العلاقة الشائكة بينهما وفقا لإرادتها الحرة فاكتشفت انها ليست حرة ولا إرادة لها أصلا؟ لم يكن مهما البحث عن إجابات لهذه الاسئلة.. كان المهم لديها في تلك اللحظة كيف تستعيد فرحها المتخيل بذلك الحدث السعيد.